كل ما نحن فيه هو مجرد قصر نظر نبرره برص الأحداث وتعاظم الكروب على كرام أهلنا، لنعيد التبصر والاهتداء بعمق التاريخ، وكيف نجا العراق من عتاة الغزاة.
العملية السياسية في العراق التي سُميت هكذا لأنها مشغل للقادمين مع المحتل في منطقة كرادة مريم، أي المنطقة الخضراء الأميركية، وتوسعت في ما بعد لتتقبل الوافدين إليها، تكاثروا على طريقة الإنجاب في المجتمعات الفقيرة، ولا نتجنى عندما نصفهم بساكني بيوت الصفيح؛ الفكرة أنهم يعيشون داخل بيوت أذهانهم وأفكارهم وأحزابهم ومرجعياتهم بعشوائيات السياسة، ومنها نقلوا تطبيقات مناهج حياتهم وصنعوا منها خارج سياجهم الجغرافي مصائد لشعب وجد نفسه في غفلة من بساطته، أسير حروب مزمنة تشبه مرض الطاعون أو الجدري أو كل الأمراض التي كانت متوطنة في العراق، وتم تصفيرها منذ ما يقارب النصف قرن بحكم التقدم في برامج الصحة والتعاون مع المنظمات الدولية المعنية.
الفئران المصابة بالطاعون هي القرارات والتعليمات وما تفشى في عقول الأحزاب الوافدة مع المحتل، مضافا إليها حفنة أوغاد هرولوا بكل طاقتهم للحاق بقطار مؤتمر لندن وأربيل لكن بعد وصوله بما حمل إلى بغداد، وصارت شرعة نزلاء فندق محطة المنطقة الخضراء الاستمتاع بمزايا الحكم والاستبداد، لكن هذه المرة باستغلال أسمى ما جادت به البشرية عبر معاناتها الطويلة بالبحث عن أنظمة سياسية ضامنة وكافلة لحقوق الناس وواجباتهم في العدالة والمساواة والحرية وسيادة القانون وإنسانية الحياة، ونعني به النظام الديمقراطي الذي تحول في العراق إلى نظام للخرافة وصندوق بريد لتوزيع عاهات الولي الفقيه الإيراني على أرض بلاد الرافدين.
هل كان العراق قبل احتلال حزب الدعوة وأحزاب الإسلام السياسي الإيراني من دون معتقدات أو مذاهب أو تنوع إثني أو قومي؟ الجواب، أكيد وبديهي، لا وعبر تعايش للمئات أو الآلاف من السنين تداخلت فيه، لفترات منه، مراحل انعدام الثقة بين مكوناته أيضا، لكنها رغم عهود الظلام كانت تتطلع إلى أفق بلادها تنتظر شروق يوم مختلف يجمع شمل الجميع بخيره وسداد رشد كبار قومه ورؤيتهم لحكمة أقدارهم ومصائرهم المشتركة.
شخصيا كنت أعتقد أن يوم المواجهة مع الحقيقة أبعد بكثير، لكن كما يبدو إن ساسة العشوائيات لم ينتظروا أو يصبروا طويلا لتنضج طبختهم فزادوا من النيران استعارا، وسرعان ما انتشرت رائحة الحريق فتداعى القريب والبعيد في فوضى عارمة وبشيء من الخوف والفضول أيضا للتدخل في فضيحة هذا النهم والجوع التاريخي للسلطة والحكم واختصار الزمن لتطبيق المشروع الإيراني بالمفرد والجملة، دون أي احترام أو ترو في مراجعة أو صياغة لغة استقراء للمنطق وحتمية نهاية كل أمر إلى مآله في مصب نتائج أعماله وتصرفات أجزائه.
حتى في الكتابة هناك إعادة صياغة، أي إعادة طهي وتجريب مستمر، بمثل حالتنا في انقلابات حكم ومتغيرات مثيرة للعجب تتطلب الحذر الشديد وكتمانا على درجة كبيرة من السرية، حتى لما يعتقدونه عقائد خاصة أو انحيازات جينية “مغفورا لها” من الصعوبة السيطرة عليه. حدث الانفلات بأسرع مما توقعنا، وكان احتلال الموصل خلال ساعتين فقط من قبل تنظيم الدولة الإسلامية داعش، ثم المدن الأخرى، فضيحة بخلاخل وأجراسا لأحزاب وشخصيات توهمت في أعماقها، بسبب استلام الحُكم في بلد شهي طالما أسال لمكانته وثرواته لُعاب الطامعين من خلال بطاقات حظ يانصيب الاحتلال، أن حكم العراق ليس أصعب من مهمتهم في التآمر عليه مع أروقة المخابرات العالمية، أو حمل السلاح ضده من خارج الحدود، أو ابتكارهم للسيارات المفخخة لتفجيرها على الأبرياء.
الموصل كانت لنوري المالكي رعبا مزدوجا، وعندما نقول نوري المالكي نقصد حزب الدعوة، وعندما نقول حيدر العبادي نقصد حزب الدعوة. لعبة التفاضل بينهما هي لعبة الخوف والرعب وأيضا لعبة السعادة والفرح الطاغي، في وجه منها يتمثل بالانتقام من المدن المعروفة بجنسها المذهبي غير الطائفي التي قاتلت مع العراقيين، كل العراقيين، ومنهم أبناء مدن العراق الذين يُراد لهم اليوم الانتماء إلى مشروع نظام الولي الفقيه والتنكر لوطنهم الأم؛ ما عدا الأكراد الذين لم يقاتلوا مع إخوتهم العراقيين لفترة زمنية محدودة اقتربت من عام واحد فقط، وكان ذلك لأسباب تدعيم الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب العراقي.
أما لماذا الانتقام المعلن والمدّعم بالحقائق تجاه مكون واحد وبالمباشر، فالسبب ليس في محبتهم لما يدعون أنه مكونهم، إنما لصناعة الأحقاد والضغائن وخلق رد الفعل ثم البناء عليه بالتأويل والإدانة. تلك سياسة لئيمة وساذجة لكنها تؤدي أغراضها، وقد فعلت فعلها طيلة الأعوام الماضية في الجرائم والإبادات والإذلال وتبادل الشك، ثم التجرؤ وبعده البحث عن العزلة بمسمياتها الجغرافية والسياسية، وهكذا وصلنا إلى الأقاليم، كمنطق لحل الإشكاليات أو المصائب، وهي حقيقة واقعة لا تنفع معها كل أعراس الدم في تحرير الموصل أو العراق من إرهاب داعش.
يستحيل أن تطلب من محكوم في ليلة إعدامه الاختيار بين تسهيل هروبه ونجاته، وبين احترام قرار المحكمة والقضاة لأنهم يمثلون إرادة القانون في بلاده، مع معرفته أن العدالة والحق على مبعدة النجوم من الأرض.
الأقاليم كما نعرف تم إقرارها في الدستور الذي وافقت عليه عدد من المحافظات ليس بينها الموصل، وباركته المرجعية الخاصة بطائفة. مرجعية يراد لها سياسيا وإعلامياً وطائفيا أن تعمم كمرجعية دينية عليا لكل الشعب العراقي، ورغم صمتها تجاه أقسى ما تعرض ويتعرض له العراق ومستقبله، إلا أنها نطقت بفتوى لتأسيس حشد شعبي أصبح من خلال هذه الفتوى ملاذا لكل الميليشيات الخارجة عن القانون. وهنا جاء دور الأغلبية الطائفية السياسية في البرلمان لتتكفل بإكمال مخطط إيصال العراق إلى زاوية الحلبة وبداية الضرب تحت الحزام وممارسة كل الممنوعات بحماية، مع الأسف، من بعض طالبي زواج المصلحة مع السلطة وإيران رغم أنهم بشعارات ومرجعيات سياسية وفكرية ومذهبية مختلفة.
عندما يتحدثون عن نسبة تصل إلى أكثر من 40 ألفا من الحشد العشائري في هيئة الحشد الشعبي الطائفي، فهم إنما يريدون توصيل رقم إحصائي لتفاوت النسب الطائفية السكانية، أي إنهم يمررون أكثريتهم كتبرير للتفوق العددي في حشدهم. ولموضوع الأكثرية شجون في سياسة الإنجاب التي لا ينتبه إليها أحد مع غياب الاستقرار المقابل والتهجير والنزوح، ولو أجرينا تعدادا بسيطا لعدد المواليد خلال السنوات الأخيرة بين المحافظات المنكوبة والمحافظات الأخرى لكنا على إطلاع بحقائق صادمة، وهنا لا نعني أبدا أن ساسة الحكم الطائفي كانوا مخلصين لمن يدّعون الانتماء إليهم طائفيا، فالعراقيون في معنى رفضهم لزيارات الحكام لمحافظاتهم صنعوا من المنطقة الخضراء سجنا صغيرا محاطا بشعب حر، لكن تقع عليه مسؤولية تاريخية حاسمة.
المؤتمرات الخارجية والدعوة إلى الأقاليم، منهم من يراها بداية سايكس بيكو بمختصرات ومجتزئات تصل إلى حلقات داخل بعضها، دون إدانات لطرف دون آخر ودون اتهامات متبادلة من كل الأطراف وصلت إلى السباب والشتائم حتى لمن يتوجع لحالة النازحين من أهلنا في الموصل، ويصفون ذلك بمحاولة التغطية على انتصارات القوات العراقية على إرهاب وبلاء داعش. بهذا المثال نوجز عراق ما بعد داعش، فالكل يبحث عن مخرج من مأزق إضاعة الوقت تحت راية فقه ولاية المرشد التي أوصلتنا إلى اقتتال الأخوة في البيت الواحد.. لماذا؟
لأن 14 عاما من إرهاب الحكومة الإيرانية الخضراء وأحزاب ولاية الفقيه، تحولت إلى خاطر موضوعي في ذاكرة الجميع كمدة كافية تم فيها اختبار النيات بأقسى العذابات مع فقدان استشراف الأمل في القادم، لأن الاستعدادات على قدم وساق لتقديم العراق كبش فداء للمشروع الإيراني لبقاء المرشد على ولايته القلقة من مصيرها داخليا.
لكن كل ما نحن فيه هو مجرد قصر نظر نبرره برص الأحداث وتعاظم الكروب على كرام أهلنا، لنعيد التبصر والاهتداء بعمق التاريخ وكيف نجا العراق من أعوام أشد حلكة وظلاما وجورا من عتاة الغزاة، ثم استيقظ ليعود إلى صناعة الحياة واكتشاف خلودها.
كل ما في الأمر أن لضمير العراق صوتا، لا يمكن تدجينه في حاضر الغرباء.
نقلا عن العرب