23 ديسمبر، 2024 3:56 م

العراق .. قبل أن تُقرع الأجراس

العراق .. قبل أن تُقرع الأجراس

منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ثمة إصرار على دفعه إلى التشرذم نحو “دويلات المدن” تذكرنا بتلك التي حكمت تاريخه قبل مئات السنين حين كانت تتنازعه خمس حواضر، وتطبق عليه حضارتان كبيرتان “الرومانية والفارسية”، لكنه توحّد بالإسلام وفرسانه الأوائل الذين بنوا الكوفة والبصرة، “مثابات” وأسّسوا أهم حضارة ودولة في تاريخه تلك هي الحضارة العباسية وعاصمتها بغداد، بكل معطياتها الحضارية وثقافتها الزاخرة التي جبت كل ما سبقها من أقنية حضارية مرت على أرض السواد أو بلاد ما بين النهرين، التي امتدت في فكرها لتأسيس إمبراطورية العرب – المسلمين، الذين رسخوا قيماً صنعت مجد العراق الحديث وإن تعاقبت وتكالبت عليه أقوام غازية.

لكن يبدو أنه ظل مطمعاً لكل من يسعى أن يصنع مجداً له أو يمد نفوذه على حساب العراق “أيقونة الحضارة الإنسانية” الأقدم في التاريخ منجزاً ومجداً، وذاكرة أمة تفاعلت فيها أقوام وانصهرت أمم ودانت له رقاب وصرع على أرضه غزاة وطغاة، ونحرت دول “خرفان بيض وسود” واضمحلت إمبراطوريات حاولت دخوله بدعوى التحرير، لكن شعب العراق وقبائله وأروماته العربية والكردية وأقلياته المتآخية كانت مُدركة لطبيعة التحديات التي تحيط بهذا البلد المبتلى بجغرافيته السياسية، حتى هتلر حلم أن يمد إليه سكة قطار (برلين – بغداد)، لكي يصل إلى مياه الخليج الدافئة، لولا جهود “صاحبة الجلالة” التي أسرعت بإرسال جنرالها “مود”، الذي دخل بغداد مطلع القرن الماضي ليعلن أنه محرر لا فاتح.

لكن تلك “الفرية” لم تمر على رجال القبائل في الفرات الأوسط والأعلى ، وأوقفوا زحفه وألغوا طموحات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بثورة العشرين، وأسسوا الحكم الوطني بتنصيب عربي- مكي – هاشمي هو الملك فيصل الأول، الذي عمل جاهداً على صياغة الدولة العراقية الحديثة بظروف مريرة، إلا أنه تمكن من أن يستل العراق من قبضات دول وأهواء شعب وإرث ثقيل من الاستعمار الطويل لدول وكيانات ولدت على أرضه واضمحلت، منذ سقوط عاصمته بغداد على يد المغول عام 1258.

ظل وجه العراق الناصع يستلهم من قول شاعره المتنبي الكوفي: “تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم” عناوين تحديه، أظن المتنبي لم يقلها كما يشاع على أمير! بل على بلد أنجبه، رحل الرجال تلو الرجال وظلت النخيل بجذوعها وسعفها تتلقى القذائف وتظمئ وإن بدى لها الماء منة، وظل العراق ممتدا في عمق أمته، يكابد الغزاة وانتحرت على أسواره أمم متجبرة، وإن دخلت خلسة أو نصبت بغفلة من الزمن أغبر، لكنه قدر بلد يهضمُ ويتمثلُ الغزاة ومن يعتلي صهوته بغفلة من زمن، كأن ريحه تمتد لتعانق تاريخ بغداد والبصرة والكوفة وأربيل لتتلاقى مع أور واريدو والوركاء وسومر وأشور والحضر وبابل.

رحلة استشعار عراقية لوطن قدره أن يكون “مثابة الفتح” ومدنه تظل ثغور وبوابات لأمة محاصرة بحضارات، وإمبراطوريات، وطغاة، وتاريخ من الوجع والهلع والغزوات، وكأن صرخة “أم عبد الله ” لم تكن لولدها المعلق أيام “أما آن لهذا الفارس أن يترجل ؟” علو في الحياة علو في الممات”، فحسب، بل كأنه تساؤل كل الأمهات وهن يدفن أولادهن وأحفادهن الصرعى بحروب عبثية مرت واحدة تلو الأخرى، لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وكأنهنّ يسألن عراقهن “أما آن لك أن تترجل؟.

عراق اليوم يعيش تحد خطير ينبئ عن أزمة تهدد وحدته جديا، وكأنه سبيكة تبلورت بعوامل كل حضاراته السابقة لكنها طرقت بقوة الاحتلال، واّليات حكمه ، التي أفرزت ما لا يعقل من هدر للطاقات: “بشراً وموارد ونوعية” تضعنا أمام تساؤلات: أما آن للعراقيين أن يتعلموا؟ أن يتركوا غزواتهم وثاراتهم ؟ وأن يبنوا وطنا معافى، تتحقق فيه العدالة المجتمعية تتريث السلطة فيه ألف مرة، قبل أن تطلق النار على أبنائها؟ أن تتعلم كيف تفاوض وتقلل الخسائر قبل أن تخسر الناس؟، أن يتعظ حكامها ويدركوا أنهم يعيشون في كنز من الموارد من عائدات النفط التي فاقت المائة مليار دولار سنوياً، وهذه النعمة تتطلب المحافظة عليها، بل تطويع تلك الموارد لرفاهية الشعب الذي كلّ وملّ من حروبه الطاحنة؟ والتي لم يحصدوا منها سوى الدمار والفقر والجهل والأمية التي تزداد يوما بعد آخر.

إن معادلة “وطن غني لشعب فقير” لم تعد تقنع الناس في العراق وسواه أو تجعلهم مسرورين بتوظيفهم بمؤسسات الدولة، بدخولهم الأحزاب الحاكمة، ليأخذوا رواتب؟! من دون إدارات دولة كفؤة تستثمر تلك الموارد لوحدة المجتمع وتطوير إنتاجيته، وعطاء أبنائه، وتجعله ينظر الى الأمام متخطيا الظروف الغابرة التي تشده الى مربع الفرقة والتشتت مِللا ونِحلا. كي ينتفع حفنة من لاعبي السياسة على حساب عامة الناس، أو يقولون لهم تلك هي الديموقراطية، تحملونا ؟! أن نجرب ممارسة السلطة كما نشاء، لأنكم انتخبتمونا !.

والأزمة أن المجتمع لا يملك وسائل الرقابة الكفؤة التي توقف الهدر أو تحيل المقصرين الى المحاكم مهما كانت مناصبهم لأنهم تسببوا بإفقار المجتمع أو فرطوا بثرواته، أو لأنهم لم يكونوا أمناء على حياة الناس وممتلكات الدولة والأفراد، إذا ما أدركنا أن العراقيين لم يتسامحوا بالدم العام والمال العام، وإن صبروا، لكي يكون المجتمع “موحدا واحدا” برغم تنوعه لا بد من، تحمل الدولة أعباء أبنائها الذين هم نتاج سياستها العامة، نتاج تعليمها وثقافتها ومحاصصتها وقوانينها ومعادلة اللعبة التي أقرتها في مجتمع لم يعد الحاكم كما كان قادرا أن يخاطب الغيمة “أينما تمطرين فإن خراجك لي” كما فعل زعيم الإمبراطورية العباسية يوما.

الآن في الجنوب حيث ينتج النفط ثمة من يُطالب بإقليم دافعه تركز تلك الثروة الهائلة في باطن أفقر مدينة عراقية في الظاهر، وثمة من يطالب بإقليم ينحو منحى الاستقلال لو شاء ، ويروج لإقليم في شمال الوسط يسمى بالإقليم السني، إنها قسمة مرة صنعتها الظروف الجديدة للسنوات العشر التي أعقبت الاحتلال، وإذا كانت هذه وجهات نظر سياسية، يمكن استيعابها لكن الذي لا يمكن استيعابه هدر الدم العراقي الذي جرى أنهارا بقدر جريان دجلة والفرات.