العراق على مفترق طرق: هل تعود “ثورة عاشوراء” في ظل تصاعد أزمة البرلمان والحكومة؟

العراق على مفترق طرق: هل تعود “ثورة عاشوراء” في ظل تصاعد أزمة البرلمان والحكومة؟

حاليآ في قلب الشرق الأوسط، حيث تتشابك الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، أصبح العراق اليوم يتنقل في خضم متغيرات جيوسياسية هائلة، تهدد مستقبله بظلال قاتمة من الاضطراب. بعد التغيرات المزلزلة التي ضربت المنطقة، وفي ظل انهيار ما كان يُعرف بـ”الهلال الشيعي الإيراني”، فقد العراق القدرة على التحرك بمرونة في محيطه الإقليمي. ليس هذا وحسب، بل إن انهيار محاور القوة التي هيمنت على المشهد لسنوات سابقة ، وعلى رأسها خروج “حزب الله/ اللبناني” والنظام السوري السابق من معادلة الصراع، قد خلق واقعًا جديدًا لا يشبه ما كنا نعرفه وتعودنا عليه طيلة عقود طويلة.

التصريحات الاخيرة الانفعالية للمسؤولين الحكوميين الإسرائيليين والأمريكان على حد سواء والتي أصبحت بصورة متسقة ومتناغمة التي تبشّر بـ”شرق أوسط جديد” لا يحمل في طياته إلا مزيدًا من الفوضى والفراغ السياسي، حيث تتداعى القوى الكبرى عن دعم حلفائها التقليديين. العراق، الذي كان دومًا في قلب هذا الصراع، يعاني اليوم من تداعيات هذه المتغيرات، فيما تزداد العلاقة بين بغداد وطهران تأزمًا وتوترًا وبالأخص ملف الفصائل الولائية المسلحة المنضوية تحت مؤسسة الحشد الشعبي. ولكن ما يعيشه اليوم لا يقتصر على تراجع دوره الإقليمي فقط، بل يتجاوز ذلك ليشمل تهديدًا مباشرًا على أمنه الداخلي واستقراره السياسي والذي ما يزال يشهد بين الحين والآخر موجات من الاحتجاجات ضد فساد الحكومة والمحاصصة الطائفية، أصبح اليوم في مواجهة معركة جديدة – معركة من أجل البقاء في ظل الانقسامات الداخلية التي تعصف بجميع مؤسساته وليس مجرد ساحة استحواذ وصراع إقليمي فحسب، بل هو الآن أمام سؤال كبير لا مجال للتهرب منه : هل سيبقى في فلك الهيمنة الإيرانية أم يرضخ للضغوط الأمريكية وسيغرق أكثر في خضم الفراغ الذي خلّفته التغيرات الجيوسياسية في المنطقة؟

في ظل حالة من التوتر السياسي المستمر منذ سنوات ، عاد مشهد صورة الأمس باقتحام البرلمان وتفجير الاحتجاجات في المنطقة الخضراء إلى الواجهة، ليحاكي سيناريو “ثورة عاشوراء” التي شهدت احتجاجات واسعة ضد سياسات حكومة رئيس الوزراء “حيدر العبادي” والبرلمان ففي يوم السبت الموافق 30 نيسان 2016، قام أنصار التيار الصدري بقيادة السيد “مقتدى الصدر” باقتحام المنطقة الخضراء، مقر البرلمان والحكومة العراقية، وذلك بعد دعوة من “الصدر” للمطالبة بإصلاحات حكومية وإلغاء المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب. كانت هذه الخطوة احتجاجًا على الفساد وسوء الإدارة. الاقتحام شهد مشاهد فوضوية وكان بمثابة إعلان رفض شعبي واسع لما كان يُعتبر حكومة فاسدة وفاجأ أنصار التيار الصدري الجميع بالدخول إلى المنطقة الخضراء، التي تُعدّ رمزًا لسلطة الحكومة العراقية واحتكار القوى السياسية للنظام السياسي. ودخلوا البرلمان في خطوة تنديد واضحة بمحاصصة الطوائف والفساد المستشري في الحكومة والاقتحام الثاني الذي حدث في يوم الأربعاء 27 تموز 2022، باقتحام البرلمان مجددًا بعد فشل تشكيل الحكومة إثر الانقسامات بين الاحزاب والكتل السياسية التقليدية المهيمنة على القرار السيادي . هذه المرة كانت احتجاجاتهم ضد ما اعتبروه عملية فساد وتدخلات من أطراف خارجية، وكذلك رفضًا لهيمنة القوى السياسية التقليدية. وكان هذا الاقتحام جزءًا من أزمة سياسية أوسع، ومن حيث كان أنصار الصدر يتظاهرون ضد تشكيل الحكومة من قبل أحزاب الإطار التنسيقي، والذي يضم العديد من الأحزاب الشيعية التقليدية. والملاحظ للمتابع ففي كلا الاقتحامين، كانت رسالتهم واضحة وصريحة : رفض سياسات الحكومة والبرلمان، مطالبين بالإصلاحات وإصلاح النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم الذي يرى الصدريون أنه قائم على المحاصصة الطائفية والفساد والمحسوبية.

إن التاريخ السياسي والعلاقة بين التيار الصدري والحكومات والمجلس النيابي ومنذ الغزو الأمريكي في عام 2003، حيث كان البرلمان دائما وما يزال مركزًا للانتقادات المتواصلة بسبب ضعف الأداء التشريعي وغياب الحلول الحقيقية للمشاكل التي يعاني منها المجتمع العراقي. ولكن مع صعود التيار الصدري ظهرت تحركات سياسية تتسم بالعنف والتحريض ضد الحكومة، تطورت إلى مظاهرات جماهيرية واقتحام مؤسسات الدولة. في عام 2015، شهدت البلاد احتجاجات حاشدة ضد الحكومة والبرلمان، حيث طالب المتظاهرون بالإصلاحات والحد من الفساد واليوم، يبدو أن جميع المؤشرات وتصريحات المسؤولين للتيار الصدري تسير في نفس الطريق من خلال تحريك الشارع ضد حكومة رئيس الوزراء الحالي “السوداني” ومشددًا على عدم فاعلية البرلمان في التخفيف من معاناة الشعب ، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول القدرة الحقيقية لهذا التيار على إسقاط الحكومة الحالية مثلما حدث في الماضي.

ولطالما كان البرلمان بحسب المتظاهرين والقوى ثورة تشرين بان فشل أعضائه في حضور الجلسات المهمة وتغيبهم عن المداولات التي تحدد مصير مستقبلهم وتحسين أوضاعهم المعيشية. على مدار سنوات، ومن خلال تأجلت القوانين الحيوية التي تمس حياة المواطن وبالأخص التي توفر فرص عمل لهم، مثل قوانين النفط والغاز ومكافحة الفساد. بينما معظم نواب البرلمان بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية، مشغولين بمصالحهم الشخصية والحزبية، متجاهلين الحاجة الماسة لتمرير التشريعات والقوانين التي تنقذ حياة الشعب وهذا الغياب المستمر انعكس بشكل سلبي على المدى الطويل على استقرار العراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مما أدى إلى تراكم الأزمات التي يواجهها المواطن يومًا بعد يوم بحيث أصبحت من الصعوبة بمكان إيجاد أي طريقة لإصلاح مثل تلك الأزمات , ورغم التحذيرات التي أطلقها العديد من المسؤولين، مثل تحذير الأخير لرئيس البرلمان، الدكتور “محمود المشهداني” حذر صراحة :”من عواقب خطيرة إذا استمرت الصراعات بين الكتل السياسية، وتفاقم الاختلافات الداخلية والفساد في الدولة وأن هناك تطورات كبيرة قد تحدث في العراق خلال شهر آب من هذا العام” وربط ذلك بتسارع الأحداث السياسية والاجتماعية في البلد، بالإضافة إلى الضغوط الإقليمية.

هذه التصريحات جاءت في وقت حرج جدآ يمر به العراق وبالاخص الأوضاع السياسية والانتخابات البرلمانية القادمة والجميع اصبح في حالة ترقب شديد مع تزايد الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة، فضلاً عن التوترات بين الكتل السياسية المختلفة، وخاصة بين التيار الصدري وأحزاب الإطار التنسيقي وإلى احتمالية تفاقم الأزمة بشكل يؤدي إلى تفجير الوضع السياسي. هذه التصريحات الرسمية لرئيس البرلمان أثارت القلق في أوساط الحكومة والساسة، حيث توقع البعض أن بعد انتهاء الزيارة الاربعينية قد يشهد تصعيدًا كبيرًا في المظاهرات أو احتجاجات شعبية قد تؤدي إلى تغييرات جذرية في النظام السياسي وأن القوى السياسية لا تزال تعيش في دوامة الانقسامات السياسية والفساد الذي يعصف بكل مؤسسات الدولة. بل إن البعض يرى أن الأوضاع تتجه نحو مرحلة أكثر تعقيدًا، مع تفاقم سيطرة الميليشيات والفصائل الولائية على مفاصل القرار السيادي وبمساندة قادة من بعض احزاب الإطار التنسيقي كما هو التحذير الأخير الذي أطلقه رئيس ائتلاف دولة القانون حول عدم تمرير قانون الحشد الشعبي.

لا يخفى على أحد أن المظاهرات الأخيرة التي اندلعت في العراق جلبت معها تساؤلات حول طبيعة الحراك السياسي المستقبلي وفي هذه اللحظة، تعيش الساحة السياسية العراقية حالة من القلق والترقب حول ما ستؤول إليه الأمور في حال تصاعدت الاحتجاجات بشكل أكبر ومن المتوقع أن تتجه الأنظار إلى التيار الصدري بصفته القوة الرئيسة التي قد تقود موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية في العراق، وتستهدف هذه المرة حكومة رئيس الوزراء السوداني. سيتجدد الحديث عن سياسات المحاصصة الطائفية التي تُعاني منها الحكومة، فضلًا عن الدور المتزايد الذي تلعبه الفصائل المسلحة في تحديد توجهات الدولة.

وما يزيد من تعقيد تأزم المشهد , هو أن بعض المسؤولين الحكوميين يروجون في وسائل الإعلام ويعتقدون صراحة وجازمين بان هذه الاحتجاجات قد تتحول إلى “ثورة عاشوراء الثانية”، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لكن، في الوقت ذاته، يرى آخرون أن هذا الحراك قد يعجز عن إحداث تغيير حقيقي، نظرًا لوجود بنية سياسية معقدة وصراعات داخلية بين الكتل السياسية المختلفة وعلى الرغم من التحركات الشعبية المتزايدة فالأزمة الحالية لا تتعلق فقط بالفساد أو ضعف الحوكمة، بل تتجاوز ذلك إلى مشهد سياسي معقد تحكمه مصالح إقليمية ودولية. إن تحركات القوى الخارجية، وتحديدًا إيران والولايات المتحدة، تُضاف إلى المشهد المربك، ما يجعل أي محاولة للتغيير الداخلي تصطدم بعوائق هائلة. ورغم هذا التشاؤم، يبقى الأمل في أن يكون هناك تحول إيجابي في المستقبل، إذا ما تمكّن المواطنون من توحيد صفوفهم وإحداث ضغط حقيقي على الحكومة لإجراء إصلاحات شاملة تضمن العدالة وتوزيع الثروات بشكل أكثر إنصافًا.

إن الوضع الراهن في العراق لا يعد مجرد مرحلة سياسية عابرة، بل هو مرحلة فارقة قد تقود البلاد إلى مآلات كارثية إن لم يتم تدارك الأمر سريعًا. الواقع المرير الذي يعيشه الشعب العراقي اليوم هو نتاج سنوات من الفساد المستشري والانقسامات السياسية التي لا حصر لها، وكلما استمر الصراع بين القوى السياسية على حساب مصلحة الوطن، زادت حدة الخطر الذي يهدد استقرار العراق وأمنه.

التغيرات الجيوسياسية في المنطقة لا تترك العراق في معزل عن تداعياتها، بل تأتي لتزيد من تعقيد وضعه الداخلي، وتضعه في مواجهة تهديدات إقليمية ودولية قد لا يمكن تحمل تبعاتها. إن الاستمرار في غياب الحلول الجذرية والإصلاحات الحقيقية يعني أننا نسير نحو هوة سحيقة، قد نجد أنفسنا في أسفلها عاجزين عن إصلاح ما يمكن إصلاحه.

إن الشعب العراقي اليوم أمام مفترق طرق، وإذا استمر التراخي في مواجهة الفساد والطائفية والمحاصصة السياسية، فإن العواقب ستكون وخيمة على جميع الأصعدة. وقد تجد نفسه في دوامة لا تنتهي من الفوضى والفقر والدمار. الوقت يمر ولم يعد في صالح الجميع، والمستقبل مهدد إذا لم نتحرك بروح وطنية مشتركة، بعيدًا عن الحسابات الطائفية والمحاصصة الضيقة، من أجل إنقاذ هذا البلد الذي دفع أثمانًا باهظة طوال عقود من الزمان.

علينا أن نكون أكثر وعيًا بما يجري حولنا، وأن ندرك أن صمتنا وتجاهلنا للمشاكل العميقة لن يزيد الوضع إلا تعقيدًا. الشعب، الذي عانى بما فيه الكفاية، يستحق أكثر من ذلك؛ يستحق الأمل في غد أفضل، ولا بد من أن يبدأ التغيير من داخلنا، أولًا وأخيرًا ومع تصاعد هذه الأحداث، وبينما يظل العراق يعيش في دائرة الأزمات السياسية، يبقى اعادة سيناريو مشهد “ثورة عاشوراء الثانية” على الأبواب، خاصة مع تصاعد الرفض الشعبي للفساد وغياب الحلول من قبل الحكومة . وفي ظل هذه الحالة، يظل التساؤل قائمًا: هل يمكن للتيار الصدري أن يسقط الحكومة الحالية كما حدث سابقًا؟ أم أن العراق سيظل يعيش في دوامة لا نهاية لها من الفساد والمحاصصة الطائفية السياسية وتدخل القوى الخارجية في شؤونه الداخلية؟

[email protected]