دخل العراق في سلسلة من الأزمات والانتكاسات السياسية والأمنية والاجتماعية طوال السنوات الماضية قبل أن يضاف لها مؤخرا أزمة مالية خانقة باتت تهدد البلد بالافلاس ليكون العراق الدولة النفطية الأولى في العالم التي تواجه هذا المصير ، ان الأزمات الاقتصادية هي أخطر ما يمكن أن يواجه الدول فهي سبب رئيسي للحروب والثورات وسقوط الحكومات وانهيار الدول .
ولعل خطورة الأزمة المالية الحالية والتي أقر بها رئيس الوزراء العراقي يكمن في توقيتها حيث تأتي في مرحلة صعبة تدشن بها الحكومة عملها ويعقد عليها أمال عريضة في اخراج البلاد من النفق المظلم و يخوض فيها الجيش العراقي قتالا شرسا من أجل استعادة أراضيه من تنظيم داعش وهو مايتطلب توفر السيولة اللازمة لذلك .
اقتصاديا يمكن تعريف الافلاس بانه فشل الحكومة في سداد دينها بالكامل ويحصل هذا عندما يكون إجمالي الديون أكبر من إجمالي الأصول وهو مايعني عمليا ان الحكومة ستكون عاجزة عن سداد التزاماتها المالية و رواتب موظفيها وهو ما أكده تقرير المركز العالمي للدراسات التنموية البريطاني والذي ذكر بان العراق سيواجه الافلاس خلال ثلاثة أعوام بسبب عجز الموازنة الذي بات يهدد قطاع النفط العراقي بشكل واضح .
ان من أهم أسباب الأزمة المالية الحالية التي يمر بها العراق هي انخفاض أسعار النفط العالمي وزيادة النفقات، لقد بدأ الانخفاض الحاد في سعر البترول منذ بداية شهر يونيو/ حزيران الماضي، فتراجعت الأسعار من نحو 113 دولار للبرميل، إلى أقل من 84 دولارًا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بنسبة انخفاض خلال هذه الفترة تتجاوز 20%، حسب وكالة الطاقة الدولية، وهو معدل مؤثر في موازنات الدول النفطية، التي كانت تؤكد دائمًا أن 100 دولار للبرميل سعر عادل ومقبول.
ولعل الغريب في الأمر هو ان هذه الانخفاض يأتي في الوقت الذي تشهد فيه الساحتين الاقليمية و الدولية مجموعة من الأحداث التي تتسبب عادة بارتفاع سعر البترول فالحرب لازالت تمزق دولتين نفطيتين هما العراق وليبيا فيما تبدو دول الخليج واقعة بين مطرقة الخوف من تنظيم الدولة الاسلامية وسندان القلق من المشروع الايراني، اما دوليا فالأزمة الأوكرانية (السبب الرئيسي للنزاع الروسي الامريكي الغربي) لاتزال قائمة مع توالي أثارها الاقتصادية سواء من حيث تشديد العقوبات الغربية على موسكو أو رفع الأخيرة لسعر الغاز الروسي الذي تصدره لكييف، مما يوحي بان صراع القوى هو من يقف وراء تخفيض أسعار النفط؟
وفقا للتحليلات الاقتصادية والسياسية فان العراق اليوم يدفع وكالعادة ثمن صراع اقليمي ودولي في مجال الطاقة فمايحصل اليوم وبرأي المختصين هي خطة سعودية امريكية للضغط على روسيا وايران من خلال تخفيض أسعار النفط العالمي
ان المملكة العربية السعودية تبدو هي المستفيد الأكبر من هذه الخطة وهو ماذكرته صحيفة الفايننشال التايمز البريطانية فخفض أسعار النفط سيحقق للرياض مجموعة من الأهداف لعل أهمها:
1- التأثير السلبي على الاقتصاد الروسي المرهق بسبب العقوبات الغربية.
2- تشكيل ضغط على ايران باستهداف اقتصادها وقوتها العسكرية من خلال التسبب بخسائر للقطاع النفطي الايراني الذي يمتلك الحرس الثوري فيه حصة مهمة وهو ماسيؤدي لتقديم ايران لتنازلات أساسية في مفاوضاتها النووية مع المجتمع الدولي خصوصا اذا ما علمنا بان ايران قد وضعت ميزانيتها للعام الجاري على أساس سعر 100 دولار للبرميل واستمرار الوضع الحالي يشكل ضربة قاسية لاقتصادها المتهاوي بفعل العقوبات ايضا في الوقت الذي تحاول فيه زيادة إنتاجها لتغطية العجز الحاصل في ميزانيتها.
3- انخفاض أسعار النفط سيؤدي الى تراجع الاستثمار في مجال النفط الصخري الامريكي المرتفع التكاليف والذي بدأ الامريكيين مؤخرا بالاعتماد عليه لتقليل اعتمادهم على النفط المستورد مع ذلك تبقى الأثار السلبية أقل من الايجابية بالنسبة للولايات المتحدة والتي سيسهم هذا الخفض لديها الى خفض الضريبة على المستهلك الامريكي الناقم على أوباما وسياساته الاقتصادية ، كما انه سيشجع الصين والاتحاد الاوربي على الاقبال على طلب النفط السعودي.
السعودية التي دخلت في هذه المجازفة لها احتياطي ضخم من العملة الصعبة ستكون قادرة بموجبه على مواجهة العجر في الميزانية وهو ترف لايتوفر للعراقيين في ظل سياسات اقتصادية فاشلة أعتمدت على النفط كمصدر وحيد للدخل القومي (93%) مع اهمال قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة والثروة الحيوانية والسمكية وهو ما أدى الى وقوع هذه الأزمة خصوصا بعد خسارة العراق ل400000 برميل يوميا بسبب سيطرة تنظيم داعش على بعض الأبار النفطية واستحواذ الأكراد على حقول كركوك، ومن هنا ندرك خطورة الموقف العراقي الضعيف في هذه المقامرة ان صح التعبير ، فالتلاعب بأسعار النفط كسلاح لتحقيق أهداف
سياسية دفع العراق لغزو الكويت عام 1990 عندما استخدم ضده هذا السلاح مع ماترتب عليه من ويلات ومأسي لازلنا نعاني منها وندفع ثمنها ليومنا هذا.
اما زيادة النفقات فيرتبط ارتباط وثيقا بحجم الفساد المالي والاداري الذي ينخر كل مفاصل الدولة العراقية دونما رقيب أوحساب فقد كشفت منظمة الشفافية الدولية في تقريرها للعام 2013، أن العراق يقبع في “حضيض قعر معدلات الفساد بالعالم”، مما أدى إلى “إذكاء” العنف السياسي والحاق “الضرر” بعملية بناء دولة “فعالة” ونقص بتقديم الخدمات إذ ما يزال العراق “فاشلاً” في توصيل الخدمات الأساسية بشكل كافي، وأن 23% من أبنائه ما يزالون يعيشون بفقر مدقع وأوضحت المنظمة، أن “العراق ما يزال وبشكل متكرر يحتل مراتب هابطة في أغلب مؤشرات الفساد الدولية، ففي العام 2012 مثلا أحتل العراق المرتبة 169 كأكثر البلدان فساداً من بين 175 دولة.
وتعتبر وزارتي الداخلية والدفاع من أكثر مؤسسات القطاع العام تأثرا بحالات الفساد، حيث غالبا ماترتبط العقود العسكرية بفضائح فساد ، فقد كشفت تقارير دولية عن حالات فساد قدرت بمئات المليارات من الدولارات طوال السنوات الماضية مابين عمولات ورشى ورواتب لجنود فضائيين وتلاعب في عقود الشراء لصفقات التسلح .
تليهما وزارة الكهرباء والتي تعتبر أحد معاقل الفساد الرئيسية في الدولة العراقية اذ وصلت حجم المبالغ المنفقة عل قطاع الكهرباء مايقارب من 80 مليار دولار دون أن تتمكن الحكومات المتعاقبة من تجهيز المواطنين بتيار كهربائي متواصل دون انقطاع ورفع قدرة المنظومة الكهربائية مما ترتب عليه خسائر اقتصادية فدرتها لجنة الطاقة والكهرباء النيابية ب45 بليون دولار من جراء استمرار انقطاع التيار الكهربائي ، ومايقال في الدفاع والداخلية والكهرباء يتكرر في كافة وزارات الدولة .
هذه التقارير الدولية تدعمها تقارير هيئة النزاهة الحكومية والتي أكدت بأن خسائر العراق خلال السنوات الخمس الأولى فقط التي أعقبت سقوط النظام السابق، نتيجة الفساد الإداري والمالي بلغت 250 مليار دولار دون الحاجة لتخمين مقدار ماتم نهبه من أموال البلاد طوال السنوات اللاحقة فالحليم تكفيه الأشارة ؟؟؟ مع التنبيه الى ما أورده تقرير اقتصادي بريطاني يشير الى تهريب مايقارب من 800 مليون دولار أسبوعيا من العراق ودون التطرق الى المبالغ الكبيرة التي تمنح بصفة رواتب ومستحقات تقاعدية وحوافز ومكافأت وبدلات للرئاسات الثلاث ووزراء الحكومة وأعضاء مجلس النواب والتي باتت تشكل ثقلا على ميزانية الدولة وسببا من أسباب التناحر السياسي والصراع المرير على المناصب بالاضافة الى نفقات ورواتب المستشارين العسكريين الامريكيين الذين تم الاستعانة بهم في الحرب ضد تنظيم الدولة.
ان العراق يمر بحرب استنزاف خطيرة لموارده وثرواته تهدد بتحويله الى بلد فقير مفلس بين ليلة وضحاها خصوصا اذا ما علمنا بان خسائر العراق في حربه على الارهاب (تقدر تكلفتها بمليار دولار شهريا) تتواصل
فقد خسر الاقتصاد العراقي مايقارب من 25 مليار دولار منذ سقوط الموصل ولغاية الآن بسبب إيقاف مصفاة بيجي عن العمل وتوقف تصدير النفط إلى الدول المجاورة واغلاق المنافذ الحدودية معها وانسحاب الشركات الأجنبية العاملة في القطاع الكهربائي ، كما يخسر العراق 3 ملايين دولار يوميا هو مقدار ماتربحه داعش من تصديرها للنفط العراقي، و تلقى القطاع المصرفي ضربة قاسية بسيطرة تنظيم الدولة على المصارف الحكومية والأهلية في المناطق المحتلة اذ تمكن التنظيم المتطرف من الاستيلاء على مبلغ نصف مليار دولار (500 مليون) بالاضافة الى استيلائه على نحو 40 % من المحصول السنوي للعراق من القمح فيما قدرت الخسائر في البنى التحتية في المناطق الساخنة بمئات المليارات من الدولارات نتيجة المعارك والقصف المتبادل ناهيك عن التكلفة المادية الباهظة التي تحتاجها الدولة للقيام بمسئولياتها تجاه النازحين من مناطق الصراع مع قدوم فصل الشتاء حيث تقدر قيمة اغاثتهم خلال هذا الفصل حصرا ب170 مليون دولار.
ان الحكومة العراقية مطالبة بايجاد حلول اقتصادية عاجلة لانقاذ الاقتصاد العراقي والحفاظ على ماتبقى من كيان الدولة والتي ستشهد نهايتها الحتمية بسبب الفساد لا الارهاب كما يعتقد الجميع وان أولى الحلول تتمثل في محاسبة الفاسدين مهما كانت انتماءاتهم وعلت مناصبهم ومحاكمتهم واسترداد مافي ذمتهم من أموال الشعب العراقي فغياب القانون والعقاب هو ما سمح بنشوء مافيات مرتبطة بالأحزاب تهيمن على كافة مؤسسات الدولة وتنهب مقدراتها بشكل متواصل ومسائلة المسئولين بين فترة وأخرى عن سير عمل مؤسساتهم ومايعترضهم
من صعوبات وتذليلها واتخاذ القرارات ورسم الخطط والسياسات بشفافية تامة وخضوع الممارسات الادارية والسياسية للمحاسبة والمراقبة الدائمة مع تفعيل دور ديوان الرقابة المالية ومكتب المفتش العام وهيئة النزاهة، يعقب ذلك حتما البدء بتنويع مصادر الدخل القومي وعدم الاعتماد حصرا على النفط والعمل على الاستفادة منه بجلب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط قطاعات السياحة والزراعة والصناعة والتجارة كماحصل في بعض الدول الخليجية والتي ايقنت بان اعتمادها الحصري على النفط سيؤدي الى انكماش اقتصادها فقامت بتوظيف رؤوس الأموال لتحقيق التنمية ودفع عجلة الاقتصاد الشامل مع حتمية اصلاح النظام الضريبي والجمركي ونظام منح العقود والمشتريات الحكومية والموازنة العامة ومكافحة عمليات غسيل الأموال وهو مايمكن اختصاره بحاجة العراق لثورة ادارية واقتصادية ملحة لانقاذ البلاد الممزقة طائفيا والواقعة بين مطرقة الارهاب وسندان الفساد من مصيرها المأساوي الموعود .