في العشرين من شهر اذار من عام 2003، انطلق الغزو الاميركي للعراق تحت مظلة التحالف الدولي الذي تشكل من قوى دولية واقليمية وتحت اشراف وقيادة الولايات المتحدة الاميركية. وقد كان الهدف المعلن للغزو هو اسقاط نظام صدام بسبب امتلاكه لاسلحة الدمار الشامل وانتهاكاته لحقوق الانسان وشنه الحروب العدوانية على جيرانه، وبالتالي تهديده للسلم والامن الدوليين، وكل ذلك كان صحيحا بالكامل، لكنه لم يكن بالامر الجديد الذي اكتشفته اميركا ومعها المجتمع الدولي بين ليلة وضحاها.
فنظام حزب البعث المنحل الذي اعتلى عرش السلطة في العراق عام 1968 بقطار انكلو-اميركي كما قال احد قادته حينذاك، اوجدته وصنعته ومكنته القوى الغربية ومعها حكومات وانظمة عربية، وهي التي دفعته الى شن الحرب على ايران في عام 1980، أي بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران بحوالي عام ونصف العام، ومن ثم غزو دولة الكويت في صيف عام 1990، وبعدها قمع الانتفاضة الشعبية في عام 1991، قد كان بأمكانها الاطاحة به في ذلك الوقت، بيد ان الحسابات والمصالح السياسية البعيدة عن كل القيم والمباديء هي التي ابقته ليواصل جرائمه ضد الشعب العراقي، ومعروف للكثيرين ان نظام صدام الذي خرج منهزما ومنكسرا ومنهارا من الكويت، ما كان بأمكانه قمع الانتفاضة وافشالها لولا الغطاء الجوي الذي وفرته واشنطن له بطلب والحاح من المملكة العربية السعودية.
واذا كانت الولايات المتحدة الاميركية قد اسقطت نظام صدام، بعدما شعرت انه لم يعد عنصرا مفيدا لها، وبعد ان ادركت ان المعارضة العراقية باتت على وشك اسقاطه، فأنها فتحت حقبة جديدة في تأريخ العراق، حفلت بالكثير من الاجرام الاميركي الذي لم يختلف كثيرا عن الاجرامي الصدامي، ولعل الاعداد الهائلة من الضحايا والدمار الهائل الذي لحق بالبنى التحتية والمنشات الحيوية، وظهور الارهاب التكفيري، واستفحال الفتن الطائفية، كلها تمثل مؤشرات ودلائل على ما خلفه الغزو والاحتلال الاميركي للعراق من ماسي وكوارث وويلات لن تنمحي اثارها الا بعد وقت طويل.
ولا يوجد رقم متفق عليه حول عدد الضحايا العراقيين منذ الغزو الأميركي، غير أن إحصائيات صادرة عن مؤسسات بريطانية تؤكد أن عدد القتلى العراقيين تجاوز المليون شخص، وأن العراق فقد حوالي 3% من نسبة سكانه منذ الغزو الأميركي.
وفي استطلاع أجرته منظمة (ORB) الصحفية العالمية التي تتخذ من واشنطن مقرا لها، تبين أن حصيلة القتلى العراقيين منذ ربيع عام 2003 وحتى ما قبل عام من الان، بلغت مليونا و 33 ألف، في حين اشارت دراسة انجزتها جامعة جونز هوبكنز الاميركية الى ان عدد ضحايا الاحتلال الاميركي للعراق تجاوز الستمائة الف شخص.
وسواء كان الضحايا قد سقطوا بسلاح الجنود الاميركان، او جراء العمليات الارهابية للتنظيمات الارهابية التكفيرية، او بسبب الصراعات الداخلية بين قوى واطراف مختلفة، فأن ذلك كان محصلة ونتيجة منطقية ومتوقعة للاحتلال.
واذا تحدثنا عن الخسائر المادية الهائلة والدمار الخراب الذي لحق بالبنى التحية والمنشات الحيوية، والفساد المالي الكبير، فـأننا سنكون في قبال ارقام مرعبة للغاية على كل الصعد والمستويات، مع صعوبة التوصل الى ارقام دقيقة جدا لمقدار الخسائر.
الى جانب ذلك فأن واشنطن اسست لمعادلات سياسية قلقة في العراق، ارتكزت على معايير طائفية وقومية ومذهبية، ساهمت في ايجاد مناخات سياسية متأزمة ومتشنجة على الدوام، سادتها الصراعات الحادة على مواقع السلطة والهيمنة والنفوذ، اريد لها ان تكون بشكل او باخر بمثابة ارضيات لتمرير اجندات ومشاريع التفتيت والتقسيم، وفق ما طرحه نائب الرئيس الاميركي الاسبق والمرشح الحالي لانتخابات الرئاسة الاميركية جو بايدن، وكذلك ما تناولته ونظرت له العديد من مراكز الابحاث والدراسات الاستراتيجية الاميركية طيلة الاعوام التي اعقبت الاطاحة بنظام صدام، وحتى ما قبل ذلك.
ولعل اجندات ومشاريع تقسيم العراق لاتخرج عن سياق المخططات التي تستهدف اعادة رسم خرائط المنطقة بما يضمن امن الكيان الصهيوني ويحافظ على المصالح الاستراتيجية الاميركية، وكذلك يطوق ويحاصر جبهة المقاومة عبر محاصرة ايران وتضييق الخناق السياسي والاقتصادي والامني عليها، لصالح تعزيز قوة ومكانة حلفاء واشنطن واتباعها، ومن تلك المخططات، الشرق الاوسط الكبير، وصفقة القرن.
ومن هنا يمكن ان نفهم سر الاصرار الاميركي على عدم مغادرة العراق والمنطقة، وربما يتذكر الكثيرون، وصف الرئيس الاميركي دونالد ترامب قبل عدة شهور لقاعدة عين الاسد العسكرية غرب الانبار بأنها قاعدة رائعة تتيح للولايات المتحدة الاميركية مراقبة تحركات ايران.
وفي واقع الامر، ان ما ارتكبته الولايات المتحدة الاميركية من اخطاء وما اقترفته من جرائم في العراق على مدى سبعة عشر عاما، هي اما نتاج سياسات متهورة غير مدروسة، او ارتباطا بحسابات واهداف معينة بعيدة المدى، وفي كلتا الحالتين، فأن الصور المأساوية والاثار الكارثية ماثلة وشاخصة على العراقيين من شمال البلاد الى جنوبها، ومن شرقها حتى غربها.