حتى الآن لم يأخذ الحدث العراقي مداه في الإعلام العربي، ولم تدرَك بعد المعاني العميقة للمظاهرات المدنية التي تملأ شوارع المدن العراقية. الحدث فاجأ الجميع بلا شك، بمن فيهم من قاموا به قبل غيرهم. نزل العراقيون إلى الشارع بتلقائية احتجاجًا على عنوان مطلبي مرتبط بالخدمات، في ظل انقطاع مريع للكهرباء وارتفاع جنوني لدرجات الحرارة، ولم يخرجوا بمطالب سياسية محددة.
ما حصل لاحقًا أن المظاهرات بدأت تتأطر حول عناوين سياسية عامة، أبرزها مكافحة الفساد، ثم الاصطدام بالمحاصصة الطائفية كبيئة حاضنة لمنظومة الفساد التعددية، غير أن شيئًا أكبر حصل، في الشارع يكاد يشبه اكتشاف العراقيين لعراقيتهم التي طمستها السنوات العشر الأخيرة، والتي ميزها طغيان حزمة من آليات التواطؤ على الوطنية العراقية، بدءًا من تجذر منظومة النفوذ الإيراني، مرورًا بالفشل السياسي الأميركي الذي بلغ ذروته مع الانسحاب المتعجل من العراق، وصولاً إلى تحايل مشاريع التقسيم والانفصال على مشروع الدولة العراقية بما أبقاها ضعيفة وعديمة الكفاءة!
ثم وصلنا إلى الشارع، نتيجة انهيار الثقة، لا سيما في الوسط الشيعي، بالأحزاب الدينية وبكامل تجربة الحكم!
يحاول الجميع الآن الركوب على ظهر الشارع العراقي الذي يتجه يوميًا باتجاه تصادم شيعي شيعي، بين طرفين:
1 – مرجعية السيد السيستاني النجفية التي تدخل للمرة الثانية منذ سقوط نظام صدام حسين دخولاً مباشرًا على خط الحياة السياسية، من خلال رعاية وتأييد وتوجيه السيستاني لرئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي في المعركة ضد الفساد والمحاصصة.
2 – قوى منظومة النفوذ الإيراني العميقة في العراق، التي عبر عنها بوضوح لا التباس فيه لجوء نوري المالكي إلى طهران، وطعنه من هناك في القرارات والخطوات الأساسية التي اتخذتها الحكومة وأقرها البرلمان العراقي، لا سيما ما يتصل بتحميل المالكي مسؤولية سقوط الموصل بيد «داعش»، أي تحميل إيران مسؤولية الإجهاز على الجيش العراقي الذي بناه الأميركيون.
مع ذلك لم، وربما لن، يتخذ هذا الفرز صورة نهائية وواضحة المعالم، لأسباب كثيرة:
أولاً: حاولت الميليشيات المرتبطة بإيران ضمن قوى الحشد الشعبي (وهذه ليست كلها إيرانية كما يشيع خطأً في الإعلام العربي!!)، حاولت في وقت مبكر التفاوض مع المتظاهرين للتشارك معهم، بنية خطف المظاهرات كما خطفوا قبلاً الحشد الشعبي وفتوى السيستاني ووسموه بميسمهم. فصار الحشد زورًا اسمًا ثانيًا لمنظمة بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي وبقية عصابات طهران.
حتى الآن ورغم مواقف المالكي الأخيرة تحاذر إيران الاصطدام مباشرة بمزاج الشارع العراقي، لامتصاص موجة الغضب والتأقلم معها.
ثانيًا: لا يبدو السيد السيستاني راغبًا أو قادرًا على الاصطدام المباشر بالنفوذ الإيراني، بقدر ما يريد تثبيت ميزان القوى وتذكير الإيرانيين أنّ تجاوزه مكلف. فإيران الساعية دومًا لوراثة مرجعية السيستاني بشخصية موالية لها (كآية الله شهرودي الذي يخصص له المالكي موازنة ضخمة)، تلعب أيضًا ورقة الذهاب بالعراق
نحو نظام رئاسي مغلق، وإلغاء البرلمان، ما لا ينتج عنه عمليًا إلا ولي فقيه برتبة رئيس، وهو ما يقارعه السيستاني بوعي تام رغم محدودية قدرته. فالعارفون بتوازن القوى الذي يحكم تحرك المرجعية، يشيرون إلى مفارقة أن النجف، مقر المرجعية، لا تستطيع التعبير عن نفسها وأفكارها ومواقفها إلا من كربلاء التي تبعد ثمانين كلم عن مقر السيستاني! في حين أن إمام جمعة النجف، السيد صدر الدين القابنجي، «معيّن» من قبل إيران ويتحرك في دائرة النفوذ الإيراني ولا يحضر صلاته إلا بضع مئات أو أقل، في إشارة إلى مزاج المدينة المناهض له. مع ذلك لا يقوى السيستاني على، أو ربما لا يريد، إزاحته. كما أن السيستاني اكتفى بعنوان إصلاح القضاء وحاذر أن يفتي بحل الميليشيات، وهو العالم أن فتواه ملزمة ومسموعة في العراق، خوفًا من سطوة هذه الميليشيات، ولأن الفتوى ستعد إعلان حرب على إيران لا تريده المرجعية.
هذان عاملان أساسيان، إلى جانب فقدان الشارع العراقي لحيوية سياسية برامجية، أو نضج مطلبي ونضالي، سيؤخران اتخاذ الصراع الشيعي الشيعي صفة جذرية عميقة، ولكن لن يمنعاه، فالأكيد أن ثمة ما انكسر وانهار في جدار الخوف من إيران. وثمة تراخٍ حقيقي أصاب أصابع قبضتها التي أمسكت بعنق بلاد الرافدين.
ليس بسيطًا أن تخرج مظاهرات في قلب كربلاء وبغداد تتصدرها هتافات من نوع: «إيران برا برا… كربلاء (أو بغداد) حرة حرة»، وهو ما سبب صدمة حقيقة في إيران، لكونه يؤشر إلى بداية انهيار مشروع الهيمنة الإيرانية على العراق. ومن المفارقات العجيبة أن انفتاح إيران على الجنوب العراقي وتناميه في السنوات الماضية عرّف العراقيين الشيعة على إيران مختلفة عن النموذج المتزمت والمتشدد التي تصدره لهم عبر علمائها وعملائها وميليشياتها، ما أشعرهم بنوع من الخديعة والنفور… والرفض كما تبدي المظاهرات! فكيف إذا كان الإيرانيون بدأوا هم أنفسهم يرفضون في بلادهم النموذج الأطرى والأرحب الذي أثار «حسد» العراقيين الشيعة الغارقة مدنهم بظلامية إيرانية لا تشبه العراق أو العراقيين؟!
هيبة إيران انكسرت في العراق، وسيتجرأ الناس عليها أكثر. هل من يتلقف عربيًا يقظة الشيعة العرب؟