23 ديسمبر، 2024 4:48 ص

العراق سليل الحارات ووريث اللعنات

العراق سليل الحارات ووريث اللعنات

لماذا وكيف ومتى ؟ أدوات الإستفهام هذه هي التي ميزت الكائن البشري واضافة له صفة العاقل عن باقي الكائنات الحية ومتى ما إستغنينا عنها فإننا لا إراديا سنستغني عن عقولنا بالتالي سنتساوى مع الحيوانات والنباتات والطفيليات وباقي الاحياء البدائية.. التخلف والجهل الذي يعانيه الشرق الاوسط حدث بسبب الحظر أو القيود المفروض علينا في إستخدام هذه الأدوات , حيث وضعت على شعوبنا خطوط حمراء ومحاذير عدة وبمختلف مجالات الحياة (اجتماعية , ثقافية , سياسية , دينية , عشائرية , قومية ) وأي شخص يحاول تجاوز هذه القيود ويستخدم حقه الانساني وميزته البشرية في تشغيل عقله ويطرح اسئلة منطقية جريئة سينهر ويسفه ويزندق ويكفر ويجرم ويقمع وأحيانا كثيرا يهدر دمه.
هذه القيود والمحاذير حولتنا من مجتمعات متخلفة الى مجتمعات جاهلة , حيث اننا لم نتخلف عن ركب التطور ومواكبة العالم المتحضر فحسب وانما نجهل حدوث التطور… بل نجهل حتى حقوقنا وواجباتنا و أبسط أمور وبديهيات الحياة.
كم من عروس قضت ليلة زفافها بالمستشفى بسبب جهلها هي أوعريسها للثقافة الجنسية وكيفية ممارسة العلاقة الحميمية بصور سليمة ؟ من الذي نشر هذا الجهل , اليست الاعراف والتقاليد الاجتماعية البالية! جربوا واكتبوا في محركات البحث جملة (ثقافة الجنس في بلاد الرافدين) وستجدوا الواح طينية عمرها اكثر 5800 سنة تحث على الثقافة الجنسية والطرق السليمة لممارستها .. هل يعلم أصحاب مشروع الاحوال المدنية الجعفري أن الملكة بو-أبي /شبعاد منعت زواج القاصرات قبل اكثر من 4600 سنة وحتى في حال وهب الاهل ابنتهم لأحد الرجال كانت تلزمهم بالاحتفاط بأبنتهم والحفاظ على عذريتها لحين بلوغها سن النضوج؟

سقت الموضوع الجنسي كمثال كونه اقل حساسية من المواضيع الدينية والتي نمنع من السؤال والاستفسار عنها واستيضاحها بحجة ( لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم) فالجهل حسب هذا المنطق اقل سوء من العلم ! ألا يتناقض هذا مع مقولة النبي محمد : اطلبوا العلم من المهد الى اللحد ؟
اتذكر عندما كنت تلميذا في احد الحصص الدينية سئلت استاذ الاديان السويدي عن بداية خلق البشر وهل نحن نتاج زواج ابناء ادام ومن بعده نوح بعد الطوفان فيما بيهم (زواج محارم) فكان رده: ابحث عن الجواب في بلدك .. لم افهم رده وتصورته رد عنصري او تهرب من الجواب ولم اكن اعلم انه يقصد العراق تحديدا .
لكن الان بعد مرور اكثر من 20 سنة فهمت قصده وبدأت أقرأ
عن تأريخ بلاد النهرين ليس من باب الهواية ولا الترف الذهني أو التثاقف وإنما هو بدافع البحث عن الحقيقة التي يفترض وجودها في أرض الرافدين كونها مهد الحضارات الانسانية, وكل شيئ بدأ منها.
الحقيقة المسندة بأدلة مادية وتحاليل علمية منطقية يتقبلها العقل, والمجردة من العواطف والروحانيات والغيبيات والهلوسات الميتافيزيقية.

لا أزعم اني قد وصلت الى مبتغاي, وربما لن اصل اليه أبدا.. لكني توصلت الى حقائق أخر منها تشابه احداث حاضرنا بالماضي والذي يصل في احيان كثيرة الى حد التطابق , لا أدري ان كان البشر
يخضع لنظرية نيتشه (العود الابدي والسنة الكونية) أم اننا نكرر نفس اخطائنا ؟

هناك حادثتين مهمتين وقعتا بزمنين مختلفين في ارض الرافدين وهما انهيار مملكة اكد واحتلال مملكة بابل التي ذكرتها في منشورات سابقة.
أما قصة لعنة أكد التي أدت الى انهيار تلك المملكة العظيمة, فقد وردت في عدة مصادر أثارية, اهما كانت قصيدة ملحمية منسوبة لأول شاعرة عرفها التاريخ ألا وهي الأميرة الكاهنة إنخيدوانا بنت سرجون الأكدي وعمة الملك نرام سين والتي أجتمعت بها الموهبة الادبية والانوثة والنسب الرفيع والقدسية.

القصيدة طويلة جدا لهذا سأحاول اختصارها جهد الامكان وسأقتبس لكم بعض ابياتها لتطلعوا على دقة وروعة تصويرها وكأنها تصف واقعنا الحالي.

في مطلعها تروي لنا بتفاخر عن أسباب وظروف تأسيس مملكة أكد وكف رعتها إلهة الحب والجنس والجمال عشتار (إنانا) وأغدقت عليها بالخير والسعادة والعطايا وجعلتها مملكة مثالية مزدهرة ومتطورة علميا وثقافيا واقتصادية وعمرانيا وازداد تألقها وعظمتها في زمن سرجون الاكدي الذي بسط حكمه على سومر وبابل وتوسع شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لتمتد إمبراطوريته من عيلام (ايران) الى البحر المتوسط واجزاء من مصر ومن الانضول الى الخليج.

بعد وفاة سرجون الاكدي حصلت سلسلة من الخلافات والانقسامات بين ابناء العائلة المالكة بسبب تصارعهم على السلطة مما شجع العيلاميين (الفرس) على التمرد واثارة الفتن في مدن سومر المحادية لهم وتحريضهم على الانقلاب ضد حكم الاكديين .
توج الملك ريموش نجل سرجون الاكدي ملكا على الامبراطورية الاكدية خلفا لأبيه وكانت فترة حكمه قصيرة جدا ولم تشهد اي انجازات بسبب انشغاله في وأد الفتن والتصدي للمتمردين ثم انتقل الحكم لشقيقه الملك مانيشتوسو والذي لم تتجاوز فترة حكمه العشر سنوات لينتقل الحكم بعده الى نجله نرام سين والذي يعد ثاني أعظم ملوك أكاد, بل ان بعض الباحثين يقدموه حتى على سرجون الاكدي بسبب حملة الثورة الكبرى التي شنها لتوحيد ثم توسيع مملكته ، وهي ذات الحملة المدونة في مسلته والتي على اثرها لقب بملك الجهات الاربع .. حيث انعش اقتصاد مملكته ووسع نفوذها وحدودها وإرتقى بالمستوى المعيشي للفرد الى ابعد مدى حتى اوصل شعبه الى اعلى درجات الثراء والرخاء نشر بينهم العدل والمساواة وأتب الامن والاستقرار في عموم مملكته .

تقول الشاعرة في وصف عظمة المدينة :

كانت انانا (عشتار)…. لا تنم حتى تملئ مخازن اكاد بالمؤونة
لا تنام حتى ترفع المساكن في المدينة
لا تنام حتى يأكل سكان المدينة افخر الطعام والشراب
لا تنام حتى تزين الطرقات بمصابيح الاعياد
لا تنام حتى تتأكد من ان القرود و الفيلة العظيمة و الجواميس
و الحيوانات الغريبة بالإضافة الى الكلاب والخيول الأصلية و الأسود
و الوعول الجبلية و الاغنام ستملئ حقول وميادين المدينة
لقد ملأت مخازن أكد بالقمح والذهب والفضة
احضرت النحاس و القصدير ….
وهبت نساء المدينة العجائز هبة العطاء
وهبت رجل المدينة العجائز هبة البلاغة
وهبت نساء المدينة اليافعات هبة المتعة و الرفاهية
وهبت شباب المدينة هبة القوة القتالية
وهبت أطفال المدينة هبة الفرح
داخل المدينة عزفت الايقاعات على الطبول و في الخارج عزفت المزامير
كان مينائها حيث رست السفن ملؤه الفرح
الملك نرام سين ارتقى على عرش أكد كضوء النهار
اسوارها كالجبل العظيم لامست السماء
كانت اكد كما لو ان انانا فتحت ابواب اسوارها
وعبر انسياب دجلة الى البحر جعلت سومر تأتي بكل كنوزها بالقوارب
سكان الأرض السوداء جلبوا الأدوات الغريبة الى المدينة
عيلام و سبير احضروا البضائع بأنفسهم كما لو كانوا حمير حمل
قدم كل محافظي و محاسبي و كهنة المعابد العطايا شهريا و بإنتظام بالمؤون الى عشتار
اي تعب هذا الذي اصاب بوبات المدينة جراء هذه العطايا
لم تعد انانا قادرة على حفظ كل هذه العطايا

هذا المنجزات الكثيرة والفتوحات العظيمة التي حققها نرام سين اوقعته في داء جنون العظمة ودفعته للتغطرس والتمرد حتى على الالهة, بل هو جعل نفسه بمصاف الالهة من خلال
اضافة صفة (دنكر) الى اسمه والتي هي لا توضع الا امام اسماء الآلهة.

هذه الافعال الغير ورعة أثارت غضب الالهة وأعتبرتها تمرد وتجاوز على قداستهم وحذرت نرام سين من سخطها وإنتقامها وسحبت الالهة عشتار يدها عن رعاية أكاد بإيعاز من الاله أنليل ..فحل القحط والتدهور على مملكته على مدى سبع سنوات وهذا ما اثار تململ وتذمر الشعب وتشضيه وكانت الاوضاع تنذر بحدوث انقلاب او تمرد شعبي على ملكهم. ومع ذلك لم ينصاع نرام سين لأوامر وتحذيرات الالهة بل أخذته العزة بالاثم فتمادى في عصيانه وغيه لدرجة انه شن هجوم على معبد الاله أنليل في مدينة نفر 7 كم شمال شرق مدينة عفگ التابع لمحافظة القادسية. فإنتهك حرمة المعبد وهدمه فحلت عليه وعلى مملكته لعنة الالهة وسلطوا عليه البراربة الجوتيين/الگوتیین الهمج والذين كانوا يوصفون ببدو الجبال ويستوطنون سلسلة جبال زاكروس غرب ايران, هجموا على اكاد كأسراب الجراد وعاثوا بها خرابا ونهبوا خيراتها ودمروا معالمها وقضوا تماما على امبراطورية اكد رغم مساعي الانقاذ والاصلاح الحثيثة التي كان قد شرع بها الملك شار- كالي- شارّي نجل نرام سين وخليفته والذي هو أخر ملوك اكد .. الا ان الخراب كان عظيم كما ان العيلاميين استغلوا تضعضع اركان المملكة وتردي اوضاعها للنيل والثأر منها فراحوا يحرضون السومريين والبابليين للأنقسام والاستقلال عن حكم الاكديين وكان لهم ما أرادوا وبذلك حققوا لعنة الالهة على أكد واغابت الشمس نهائية عن الاكديين.

بعض مفكري الكرد ينسبون انفسهم للجوتيين/الگوتیین ولا ادری آن کانوا سیتمسکون بذلك النسب بعد ان يطلعوا على واصف الشاعرة الاكدية لأجدادهم حيث تقول

رفع أنليل نظره نحو جبال كوبن
و جعل كل سكان الجبل باعدادهم الضخمة تنحدر؟
أتى أنليل من الجيال بأولئك الذين لا يشبهون أحد
أولئك الذين لا وطن لديهم
الگوتيون البرابرة
غرائزهم كغرائز الكلاب و ميزات القردة
وجوههم مكفهرة وأشعرهم كثيفة كالقنافذ
لئام الطبع كما الوحوش الكاسرة
نزلوا كطيور صغيرة وانقضوا على الأرض بقطعان ضخمة
بسبب إنليل أمتدت ايديهم لتغطي مساحات واسعة من الآراضي كشبكة صيد
لم ينج احد من براثنهم
لم يهرب احد من متناول ايديهم
الكوتيون شردوا ماشية من اماكنها و اجبروا الرعاة على اللحاق بها
شردوا الابقار من مراعيها و اجبروا الرعاة على اللحاق بها
السجناء انتشروا في الشوارع
قطاع الطرق احتلوا الطرق الخارجية
عم الخراب فأصبحت المدن كما لو كان الزمن قد عاد لما قبل بناء المدن
لم تنتج مساحات صالحة للزراعة اي حبوب
لم تنتج البحيرات اي سمك
لم تنتج البساتين شرابا او نبيذا
لم تمطر الغيوم السميكة
في هذه الايام، مقابل شيقل(عملة) واحد يباع نصف لتر من الزيت فقط!
مقابل شيقل واحد تباع نصف حفنة من الحبوب
مقابل شيقل واحد يباع مناً واحدا من الصوف
مقابل شيقل واحد تباع سمكة واحدة
بهذه السعار بيعت هذه المواد في اسواق المدينة!
أولئك الذين استلقوا على السقوف ماتوا على السقوف
أولئك الذين أستلقوا في منازلهم لم يدفنوا
كان الناس يضربون انفسهم من الجوع
الكلاب السائبة تمشي سوية في الشوارع الصامتة
إذا مشى رجلين في تلك الشوارع التهموه
اذا مشى ثلاث رجال في تلك الشوارع التهموه
لكمت الأنوف؟
حطمت الرؤوس
الانوف؟
تراكمت
القيت الرؤوس كما البذور
اختلط الشرفاء بالخونة
الأبطال استلقوا موتى على بعضهم البعض
اختلط دم الخونة بدم الشرفاء
الذي يؤمن بالروحانيات والميتافيزيقيا ربما يصدق بأن الذي حل بأكاد هو لعنة من الالهة او الله, أما الذين يحللوان الاحداث والوقائع بأسلوب دياليكتيكي مجرد من العاطفة والرومانسية ومبني على الحجج المنطقية والادلة المادية سيجد ان سقوط أكد كان وراءه 4 عوامل وهي :
غطرسة وجشع الحاكم
تآمر العيلاميين (ايران) وزرع الفتن بين ابناء الرافدين
اقحام الدين بالسياسة
تدهور اقتصاد المملكة.

أخير اترك لكم ابيات اضافية راقت لي من القصيدة الملحمية التي تتحدث عن لعنة أكد أتمنى ان تطلعوا عليها وتربطوا صور القصيدة بأحداث الحاض

” أيتها المدينة التي تجرأت على تدميرإيكور (معبد الاله انليل)، الأ تعلمين انك اهنت انليل و وجهت هجومك عليه؟
عسى ان تردد اسوارك صدى الندب و البكاء و النواح في أرجائك
عسى ان تصبح صروحك كوم تراب
“عسى ان يعود طينك الى الآبسو “مياه العمق
عسى ان يكون طينا ملعونا من إنكي
عسى ان يعود قمحك الى أخاديده و عسى ان تلعنه أشنان
عسى ان يذبح ذباح الماشية فيك زوجته
عسى ان يذبح قصابك اولاده
عسى ان يجرف الماء فقيرك في بحثه عن المرجان
عسى ان تشنق العاهرة نفسها على باب بيت الدعارة
عسى ان يشترى ذهبك بسعر الفضة
يا أكد، عسى ان تفارق أقوياءك قوتهم فيحل بهم الوهنم
عسى ان يستلقي مواطنيك الذين تعودوا على الطعام الجيد جياع على العشب
عسى ان يحل الإكتئاب على قصرك الذي بني للفرح
عسى اشرار الصحراء تعوي بإستمرار في قصرك الساكن
عسى ان تسرح الثعالب في خرائبك التي خصصت للأحتفال
عسى ان ينمو العشب طويلا في المسارات الخاصة بك
عسى ان ينمو العشب طويلا في طرقك الخارجية الخاصة بالعربات
عسى ثعابين الجرس الجبلية ان لا تسمح لأحد بالعبور على طرقك
في سهولك حيث ينمو العشب الجيد، عسى ان ينمو قصب النواح
يا أكد، عسى ان تتدفق المياه المالحة حيث تدفقت المياه العذبة
اذا قرر احدهم قائلا ” انا سوف اذهب الى هذه المدينة ”
فعسى ان لا يتمتع بملذات السكن هناك
اذا قرر احدهم قائلا ” سأرتاح في أكد ”
فعسى ان لا يتمتع بملذات الراحة هناك

الى اخر القصیدة

مصدر القصيدة
The literature of the Sumerian – Jeremy Black, Graham Cunningham, Eleanor Robson and Gabor Zolyomi