مرة قال أحد رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على المنصب بعد صدام: نريد للعراق أن يكون ساحة لتلاقي المصالح في المنطقة!!
في الحقيقة لا يوجد رئيس دولة يمتلك وعياً سيادياً يمكن أن يتكلم عن بلده بهذه الطريقة! ما معنى ساحة لتلاقي المصالح؟! ولماذا يكون العراق مجالاً وساحة لنفوذ وتدخلات وصفقات الآخرين؟!
لماذا نرهن أنفسنا ومصالحنا بنزاعات ومصالح الآخرين؟!
وقتها تذكرت ما كان يسمى في بغداد قديماً بساحة البيع المباشر للسيارات في منطقة النهضة أو البياع والتي كان يطلق عليها “الوكفة” أي أنها “مكان الوقوف” حيث يتجمّع البيّاعة – شرّاية (تجار السيارات) والجَنّاية (الذين يقتنون السيارات للاستخدام الشخصي) لعقد صفقات بيع وشراء أنواع السيارات التي أصبحت اليوم عتيقة كالبرازيلي والسوبر والماليبو والكرونا والمرسيدس الدبّ والكوستر القنبورة.
ساحة البيع المباشر هي أيضاً ساحة لتلاقي المصالح!
وأتذكر أيام الاعتصامات الاحتجاجية التي حصلت في المحافظات السنية والتي بدأت عام 2012 أن أحد قادة هذه الاعتصامات قال إن الشعار الرمزي للتظاهرات (كف مضمومة ما عدا السبّابة التي تشير إلى التوحيد) يشبه شعار اعتصام جماعة الإخوان المسلمين في ميدان رابعة ضد نظام السيسي في مصر (كف مفتوحة ما عدا الإبهام) لأن القضية هنا وهناك واحدة!!
بمعنى أن قضية السنّة في العراق هي امتداد لقضية الإخوان المسلمين في مصر .. وهذا منطق أممي ينطبق عليه مفهوم “وحدة الساحات” .. أي أن الساحة العراقية تتداخل مع الساحة المصرية والساحة السورية والساحة التركية عندما يتعلّق الأمر بأمن ومصير السنّة في المنطقة.
في الجانب الشيعي، هنالك إيمان بوحدة الساحات أيضاً، بمعنى أن الساحة العراقية تتداخل مع الساحة السورية والساحة الإيرانية والساحة اللبنانية والساحة اليمنية عندما يتعلق الأمر بمصالح ومصير الشيعة في المنطقة.
مقولة “وحدة الساحات” اليوم يتم استدعاؤها عراقياً، فهنالك سردية سنية ترى في صعود أحمد الشرع وتراجع المشروع الإيراني في سوريا انتصاراً رمزياً للهوية السنية في المنطقة وبضمنها العراق، وفي المقابل هناك سردية شيعية ترى في سقوط نظام الأسد وسيطرة “السلفية الجهادية” على السلطة في دمشق هزيمة رمزية للهوية الشيعية في العراق والمنطقة.
إنه منطق وحدة الساحات أيضاً .. فالساحة العراقية مرتبطة بالساحة السورية وفق هذه السردية المذهبية المشتركة التي تنظر للعراق بوصفه “ميدان مواجهة” ضمن صراع أممي أوسع و”ثغراً من ثغور الكفاح الثوري” لكلٍّ من الهويتين.
إن منطق “وحدة الساحات” كما تتبناه بعض الخطابات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومنطق “ساحة تلاقي المصالح” كما ورد في تصريح سياسي، كلاهما يعكسان تصوراً وظيفياً للدولة العراقية باعتبارها حيزاً مفتوحاً للتفاعل الخارجي ومساحة شاغرة قابلة للاستخدام الأيديولوجي وتقاطع المشاريع الإقليمية والتوظيف في السرديات الأممية، لا فضاءً سيادياً لصناعة القرار المستقل أو تثبيت الهوية الوطنية الجامعة.
وهذا المنطق لا يختلف كثيراً عن مشهد “ساحة البيع المباشر” في الثمانينات والتسعينات ببغداد، حيث تُعرض السيارات بانتظار من يساوم عليها. الفارق الوحيد أن المعروض هنا ليس مركبة مستعملة، بل وطن تتنازع عليه الأهواء والولاءات.
إن اختزال العراق إلى “ساحة” بأي معنى هو تعبير عن عجز النخب عن إنتاج سردية جديدة تتمحور حول الدولة العراقية بوصفها كياناً سيادياً واعياً بذاته ومصالحه، ومجتمعاً متماسكاً مدركاً لمسؤولياته الأخلاقية تجاه نفسه وبلده، و”سردية وطنية” خالصة وثرية ومُلهِمة ومستقلة عن المقولات الأممية والسرديات العابرة للحدود.
إن الطريق نحو إعادة صياغة العراق بوصفه دولة فاعلة لا ساحة مستباحة، يبدأ بإعادة بناء الوعي السياسي على أسس سيادية وحقوقية وتنموية. فبلورة فكر وطني عقلاني، يتجاوز التابعية والالتحاقية والمحاور، هو وحده الكفيل بإرساء مناعة داخلية مستدامة تُمكّن العراق من مقاومة مشاريع الهيمنة الخارجية، والتعامل بوعي مع التحوّلات الإقليمية، واحتواء الضغوط الأيديولوجية والانفعالات العاطفية التي غالباً ما تكون مدخلاً للتأثير والنفوذ. فبدون هذا التحوّل البنيوي في التفكير، سيبقى العراق حبيس منطق “الساحة” الذي يكرّسه كياناً هشاً وبيئة رخوة قابلة للاستقطاب والاستلاب مهما تغيّرت الأيدي التي تتناوب على إدارته.