19 ديسمبر، 2024 9:32 م

العراق دولة الفساد …في غياب شعبه!!

العراق دولة الفساد …في غياب شعبه!!

لم يشهد تاريخ العراق في كل الحقب والعهود الزمنية التي مرت عليه فسادا افدح واضخم واوسع مما شهده بعد عام 2003 حيث وصل الفساد الاداري الى مديات خطيرة تهدد الدولة العراقية وجميع مؤسساتها واركانها  ومجتمعها ‘يأتي هذا على الرغم من وجود مؤسسات وهيئات رقابية وتشريعيه وقانونيه ومنظمات مهنية ومدنيه اُسست وشُرِعت وفقا لمبادئ ومواد الدستور العراقي الجديد واكتسبت قوتها وحصانتها بقوة القانون ‘بغية التدقيق والرقابةوالمتابعة لمظاهر الفساد والحد منه ومكافحته لإرساء دعائم دوله مدنيه ديمقراطية دستوريه تتماشى مع متطلبات العصرنة الحديثة وتعزيز مقومات النهوض الاقتصادي والتنموي والتقدم الحضاري للبلد ورفع مستوى معيشية  ورفاهية ابنائه بعد سنين العذاب والجفاف والقهر .

فلماذا تفشت ظاهرة الفساد الاداري والمالي بعد عام  2003  بهذا الشكل المريع والفاضح الذي يهدد كيان الدوله والمجتمع ومستقبل الاجيال القادمة .
لهذا سنركز في بحثنا هذا عن بعض الاسباب والعوامل التي ادت الى استفحال  هذه الظاهرة وتناميها  :

1-النظام العراقي الجديد ورث تركة ثقيلة من الفساد الاداري والمالي عن النظام السابق نتيجة للحروب والصراعات والسياسات الهوجاء التي افتعلتها القيادة السياسية السابقة  ومريديها والتي انعكست تداعياتها على المجتمع العراقي وعلى بناه الاقتصاديةوالاجتماعيةوالصحيةوالثقافية ‘فولدت جيوشا من البطالة والمعوزين والفقراء ومن الايتام والثكالى والمعوقين والمحتاجين الى سد رمقهم واشباع عوائلهم وادامة حياتهم ‘لكنهم يفتقرون الى فرص عمل او مجالات تمكنهم من العمل لكسب الرزق الحلال كي يقوموا بها انفسهم وعوائلهم ‘مما اضطر الكثير منهم الى اتباع الطرق غير الشرعيةوالقانونية لتتيح لهم الحصول على الموارد المادية وبالتالي استمرارية العيش والبقاء. 2- اسقاط النظام السابق على يد القوات الدوليةالمتحالفة ازاح عن كاهل العراقيين حكما دكتاتوريا غاشما وانقذهم من براثنه‘ الا انه لم ينقذهم من آفة الفساد والفقر والجوع الذي سببه لهم النظام السابق مما مهد السبل والطرق الى استشراء الفساد وتضخمه وتنوعه دون ان يجد الاسلوب الناجع لمكافحته والتصدي له ‘بالقدر الذي ولد مواطن ومنابع ومراتع اخصب لتناميه وتمدده. 
3- لعبت القيادةالسياسيةالجديدة واحزابها دورا كبيرا لتفشي ظاهرة الفساد الاداري والمالي وتناميها ‘ابتداء من النهب والسرقة  الذي مارسته عند دخولها العراق مع المحتل الاجنبي لكل ممتلكات الدولة وعقاراتها ومقرات الحزب الحاكم السابق وممتلكاته وقصور وابنية قياديه وسياسيه‘ كلها اضحت تحت متناول الاحزاب الجديدة وهيمنتها ‘ونظرا للانهيار الذي اصاب الدولة العراقية ومؤسساتها وتفكك قواها الأمنية من جيش وشرطة محليه والتي ادت الى خلق حالة من الفوضى والتسيب‘ مما فسحت المجال لأصحاب النفوس الضعيفة والسيئة ومن السياسيين والحزبين بالاعتداء وسرقة اموال الدولة وبنوكها وممتلكاتها ‘كل هذه التصرفات المشينة اتي رافقت الاحتلال عمقت من ظاهرة الفساد الاداري في العراق وسهلت للبعض من موظفين ومسؤولين ومن بعض ابناء الشعب بالتطاول والاعتداء على المال العام وثروة البلد.
4-انعدام العدالة والمساواة بين ابناء الشعب في التعين والمناصب والوظائف والرواتب والامتيازات والاجور يخلق فجوة وحساسية كبيره بين الناس وقد يشعرهم بالتهميش والظلم فيخلق في نفوسهم شعورا بانعدام المواطنة وان الوطن ليس ملكا للجميع يتساوون فيه بالحقوق والواجبات وحسب مبدا تكافئ الفرص ‘وانما  على اساس المحسوبيه ولمنسوبيه بالانتماء لهذا الحزب او لتلك الطائفة او للعشيرة والاقارب او للعلاقات الشخصية ‘وهذا ما حصل فعلا في العراق والى الان يمارس هذا الاسلوب‘وبشكل فاقع وبدون احساس وطني من قبل القادة والسياسيين واحزابهم ‘ان مثل هذا الاسلوب اشاع ظاهرة الفساد ودفع بالبعض ان يتخلى عن وطينته لأنه امام واقع مرير تقوده قيادات وسياسيون ابعد ما يكونون عن الوطنية ومبادئها.
 5-الفساد السياسي في العراق هو الحاضنة الام للفساد الاداري وهو الظهير القوي الذي يتكأ عليه الفساد الاداري ‘فعندما يشرعن الساده والمسؤولون الكبار هذه الرواتب والامتيازات والايفادات والاستيلاء على املاك الدولة واراضيها وعلى القصور الرئاسية للنظام السابق ‘وعندما يدخلون منافسين ومضاربين في السوق التجاري العراقي كأصحاب شركات او كوسطاء وشركاء او يتقاضون العمولات والرشا مقابل منح العقود  او الاتفاق مع مناشئ وشركات معينه مقابل دفوعات خياليه يتقاضونها من الممولين والمصدرين او من غسيل الاموال وتهريبها للخارج والتعامل مع المصارف الأجنبية ‘كل هذا الثراء الفاحش والتمدد به   داخل القطر وخارجه الذي اتخم به السياسيون والمسؤولون وعلى حين غره ‘يؤدي الى تفشي ظاهرة الفساد ويشجع الموظفين وبسطاء الناس ان يتعاطوا الفساد ويستسهلوه.
بالمقابل فقد كان للإدارة الأمريكية ممثلا بالحكم المدني لبول بريمر اليد الطولي للفساد في العراق عبر احتكار عملية توزيع عقود الاعمار ‘حيث عمدت الى منع الشركات الصغيرة من الدخول الى المنافسة لقلة المعلومات المتوفرة عن العقود ‘او دفع الاموال مقابل عدم اخضاع تلك العقود الى الاشراف الامر الذي مكن كبرى الشركات ومنها(هالبرتون‘وبكتل)والتي تربطها علاقات مع الحكومة الأمريكية من الفوز بأغلب تلك العقود والتي بدأت تظهر دلالاتها من خلال الارباح الهائلة التي حققتها تلك الشركات الامر الذي دفع رئيس منظمة الشفافيفه الدولية( بيتر ايجن)بالتأكيد على ضرورة مكافحة الرشا وتجنب سيطرة نخب فاسده على موارد البلد في ظل غياب الشفافية في عقود اعادة الاعمار للعراق. 
 6-لعبت الحملات الانتخابية دورا بارزا في اضفاء ونشر الفساد الاداري في العراق ‘اذ تتطلب العمليةالانتخابية الكثير من التمويل اللازم الامر الذي يدفع اصحاب القرار السياسي للجوء الى ذوي المصالح التجارية للحصول على ذلك التمويل مقابل وعود مستقبلية بجني المكاسب ‘فمن شان العوامل اعلاه ان تؤدي الى خلق حالة من الازدواجية في الولاء بين الممولين وبين الوطن والمبادئ من قبل السياسيين واحزابهم مما يترتب عليه   ضعف الاداء والإدارة لكون هؤلاء الساسة يلبون رغبات اسيادهم ويتجاهلون رغبات المجتمع ‘فضلا على ما تخلفه من فجوات ما بين السلطة والشعب ‘او مزيدا من الاحتكار في المجالات الاقتصادية والتي تتولد  اما بشكل مباشر او من خلال شبكات الاتباع والانصار.
7-حالة الشعور  لدى اصحاب السلطةوالسياسيين بان فترة بقائهم في القيادة محدودة قد تدفعهم الى ممارسات غير مشروعة من اجل التشبث والبقاء في السلطة ‘او ان آلية الانتخابات التي اسهمت في الوصول الى مقاعد الحكم دفعتهم الى التحول الى دكتاتورين وفاسدين بعد ان منحهم الشعور بان اخراجهم من السلطة لن يتم بالطريقة ذاتها وعبر نفس الاليات والذي سيكونون انفسهم اللاعبين الاساسيين فيها كما هو في العراق.
8-انعدام المحاسبة وضعف العقوبات من الاسباب التي ادت الى انتشار الفساد وتضخمه فالكل يتحدث عن الفساد في العراق ومنذ سقوط النظام السابق الى الان‘ ولكن عندما نبحث عن المفسدين لا نجد لهم اثرا امام القضاء والقانون ‘في حين ان ثروة البلد وامواله وارزاق شعبه واقعة تحت رحمة الفاسدين وعبثهم ‘فهناك المليارات التي هربت للخارج وهناك الاف المشاريع الوهمية مقبوضة الثمن دون ان نجد لها اصولا على ارض الواقع وهناك الاف الملفات التحقيقية للمفسدين من وزراء ومدراء عامين ومن سياسيين كبار ورجال اعمال ومقاولين ‘لكن ملفاتهم مخبئة في ادراج القضاء دون ان تروج وتأخذ طريقها السليم للمحاكم المختصة لينال اصحابها العقاب وترجع الاموال التي سرقوها او اختلسوها لخزينة الدولةولأصحابها الشرعين‘كل ذلك يأتي بسبب الضغوط والتدخلات التي تمارس على الهيئات الرقابية من النزاهة او ديوان الرقابةالمالية او المفتشين العموميين في الوزراء لكون اغلبهم منحدرا من هذه الأحزاب نفسها فهم الذين يتسترون على منتسبيهم ومفسديهم حتى لا تطالهم يد العدالة ‘مما يؤدي الى زيادة حجم الفساد واتساعه في البلد. 
9-متى ما صلح القضاء واستقام صلح البلد وقويت هيبة الدولة وتعزز وجودها وانتشرت سيادة القانون وهيمنته ‘الا ان القضاء العراقي قد اصيب بالخمول والترهل والفساد وشابته التهم  بالانحياز وعدم الاستقلالية والمحاباة  للمسؤولين والسياسيين الكبار واحزابهم ‘لهذا يبقى الفساد ويستقوي طالما لم يجد قضاء عادلا نزيها يوقفه عند حده ولجم جماحه .وهناك آلاف الملفات التحقيقية الخاصة بالفساد من سرقة وهدر وتلاعب بالمال العام تنتظر من يحركها ويحيل اصحابها للمحاكم المختصة لكي ينال مقترفي الفساد فيها جزائهم العادل ولكي تكون رادعا قويا لبقية المفسدين او لمن ينون القيام بعمليات تلاعب ونهب لأموال الشعب. 
فقد رافقت مظاهر الفساد آلية صرف الاموال المخصصة لتمشيه امور البلد وكذلك مساعي ما سمي بأعاده الاعمار في العراق، سواء بالنسبة للأموال المخصصة من الجانب الامريكي او الاموال العراقية، الامر الذي ادى الى تبديد الموارد المتاحة للمشاريع فضلاً عن ارتفاع تكاليف العقود. ان احد عوامل الزيادة في تكاليف العقود هي ارتفاع تكلفة توفير الامن التي تدخل في تكلفة العقود والتي تستند الى قاعدة التكلفة زائداً هامش الربح ،الى تأثير تعدد المقاولات من الباطن (وبيع العقود من واحد الى آخر ).10-تردي الوضع الامني بعد الانهيار المهول الذي صاحب دوائر الدوله ومؤسساتها وخصوصا الأجهزة  الأمنية ادى الى تخلل واستقرار الدولة وعدم القدرة على ضبط الامن والنظام والمحافظة على ممتلكات الدولة ومرافقها حيث باتت عرضة للنهب والسرقة من المغرضين والفوضويين ومن المتلاعبين من نهازي الفرص والازمات.
 11-ضعف  وتواني الحكومات التي تعاقبت على قيادة البلد منذ سقوط النظام الى الان وعدم اهتمامها ورعايتها لهذه الافه الخطرة التي تنهش باقتصاد العراق وتدمر مستقبله ‘فضلا عن الازمات السياسية المتتالية التي تخلقها الحكومة وسياسيها من اجل المصالح والمنافع والاقتتال والتنافس على المناصب والمراكز الحساسة في الدولة والسلطة دون ان تلتفت الى ادارة الدولة ومرافقها ومؤسساتها بالشكل الذي يؤدي الى متابعة ومراقبة ومحاسبة الفاسدين او الحد من عمليات الفساد‘ هذا التسيب واللامبالاة من قبل السلطة التنفيذية لدوائرها مهد الطريق السهل والسليم للنفوس الضعيفة لكي تعيث فسادا بثروة العراق واقتصاده وبالتالي بأمنه واستقراره‘ فالفساد الاداري هو الحاضنة والدافع الرئيسي للإرهاب الدولي والداخلي الذي يفتك بالعراق الان وطنا وشعبا ‘حيث تعتمل آلته الحربية بحصد ارواح العراقيين بمتفجرات ومفخخات وتحتل قواه ثلث مساحة العراق وبعضا من مدنه وقراه ولا يزال نزيف الدم يتدفق من اوداج شباب العراق وفتيته الذين نذروا انفسهم دفاعا عن تربة الوطن بعد ان تخلى عنها حماة الوطن وممن انيط بهم الواجب للدفاع عنه عندما هربوا مخلفين ورائهم شرفهم ومهنيتهم العسكرية ‘فضلا عن المليارات من الدولات التي اريقت في ساحات الشرف والعزة من الأسلحةوالأعتدةوالآلات الحربية والمدافع والدبابات وكل المستلزمات العسكرية الحديثة التي استلبت من بين افواه الشعب للدفاع عن مقدراته وامنه ‘الا ان الفساد كان اقوى واعتى من الشرف والغيرة والحميه على البلد حيث نصب هؤلاء القادة والامراء من الضباط على مصيره بالبيع والشراء للمناصب والمراكز التي اهلتهم من الاعتلاء على صهواتها مقابل الاف الدولارات التي دفعوها للساسةوالقادةالعراقيين الذين وضعوا ضمائرهم ووطنيهم رهينة لأطماعهم وشراهتهم ونسوا انهم قادة لهذا البلد تترتب عليهم مسؤوليات وتبعات حمايته وادارته والحفاظ على ارواح ودماء ابنائه.
ما تخلفه الازمات الاقتصادية التي يمر بها العراق من آثار اجتماعية واقتصادية مدمرة تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم والبطالة وتدهور القدرة الشرائية لابد لها ان تساعد من تنشيط فرص الفساد الاداري ‘فالنسب المرتفعة للتضخم تحدث تشوهات في المستوى العام للأسعار وتعيد توزيع الدخل لصالح فئات محدده من اصحاب النفوذ والقادرين على استغلال مواقعهم المتميزة في المجتمع كذلك تغير من نمط الاستثمار وتعمل على تحفيز النزعة الاستهلاكية لدى المجتمع 
12- انعدام الرقابة على المتلاعبين في الأموال التي تدخل الى العراق بصورة منح او هبات بسبب عدم وجود ضوابط قانونيه لإدارة مثل هذه الاموال ‘وكذلك على المناقصات العامة وصفقات الشراء والعقود فان الافراد المتنفذين يجدون الفرص الملائمة للكسب غير القانوني وجباية الضرائب والكمارك من خلال استغلال المنصب ‘فان هناك تخفيضات ومزايا يمكن منحها بشكل غير قانوني مقابل رشوه او عطايا خاصه.  
13- وجود بعض التشريعات التي تسبب في انشاء بيئة خصبه للفساد كما حصل في المادة 136 ب من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم (23/   971قبل الغائها من قبل مجلس النواب في السنوات الاخيره‘والتي تنص(لا يجوز احالة المتهم على المحاكم في جريمة ارتكبت اثناء تأديته لوظيفته الرسمية او بسببها الا بأذن من الوزير التابع له مع مراعاة ما تنص عليه القوانين الاخرى).

المصادر:
    (منظمة الشفافيه االدوليه ‘الفساد في عمليات اعادة البناء بعد الحرب ‘التقرير العالمي للفساد‘2005:5
(عوض فاضل اسماعيل‘النقود والبنوك‘دار الحكمه للطباعه والنشر ‘بغداد‘1990:685

أحدث المقالات

أحدث المقالات