منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921، إلى لحظة انهيارها بفعل الإحتلال الأمريكي عام 2003، كانت قاعدة (التوافقية) التي ينبغي أن تحفظ مصالح العراقيين ، هي الغائب الأكبر في واقع الأمر ، ولو قُدّر لتلك الصيغة أن تتفعل وتترسّخ، فلربما جنّبتْ العراق الكثير من المآسي التي حدثت تحت يافطة (المواطنة) والتساوي أمام القانون كما صيغتْ كافة الدساتير – المؤقت منها والدائم – ابتداءً من القانون الأساسي لعام 1925،مروراً بكلّ الدساتير المؤقتة التي وضعت بإسم (الشعب العراقي ) شكلاً ، وصولاً إلى دستور عام 2005 .
في كلّ تلك المسارات (الدستورية) إرتكزت فلسفة الدولة على معنى المواطنة والهوية الوطنية بصفة نظرية لم تنتقل يوماً إلى حيّز التطبيق ، وبالتالي لم يُحدد في أيّ منها تسمية معينة لأي مكّون عراقي، ما أفسح في المجال أمام ظهور دكتاتوريات صادرت حقوق العراقيين تحت شعارات الوطنية والمواطنة والأمّة وماشابه.
لكن هل الدكتاتوريات خطأ تكويني في بناء الدولة العراقية ؟ أم أن مصدره الاستعداد الفردي عند من تسلّموا السلطة ؟ ثم ما دور التنوع المجتمعي في ظهور الدكتاتوريات واستمرارها في العراق ؟
ليس في فلسفة بناء الدولة العراقية دستورياً، ما تعاب عليه من ناحية نظرية ،كذلك ليس منطقياً أن كلّ من تسلّم السلطة ، كان يحمل (جينات) إستبدادية بالوراثة، وإن وجد ذلك ،فلا بد له من حاضنة إجتماعية يستند إليها،لكن الخلل في الجوهر تمثّل بالقفز على حقيقة التنوع في العراق، وبالتالي تجاهل العمل على بناء (الدولة التوافقية) الوطنية، بديلاً لدولة الاستئثار باسم الوطنية .
إن على الفكر السياسي العراقي ،الإقرار بواقع التعددية في الإجتماع العراقي، وبالتالي إيجاد أنسب الوسائل وأكثرها ملاءمة لنقل (التوافقية) من اعتبارها مدخلاً للإختلاف والتعطيل المتبادل لمهام الدولة، إلى تعاقد حرّ بين مكوّنات الشعب وتفاعل حيوي لايلغي دور أحد، ولايكرّس كذلك استئثار أحد ، ذلك ما يقتضي الابتعاد أولاً عن المقولات الجاهزة ومغريات استهلاكها، للإنتقال من ثم إلى أعمال العقل ومتطلبات الموضوعية،كي لايبقى الفكر السياسي العراقي أسير المفاهيم الطوباوية واستحضاراتها الجامدة .
يقف العراق اليوم في مرحلة وسطى بين الأمّة والدولة، فهو يملك كلّ مقومات الأمّة، من دون إعلانها ،ويملك كلّ عناصر الدولة، من دون تشكّليها، وفيما انهارت الدولة بأشكالها القديمة،لم تنشأ بعد دولة تأخذ شكلاً جديداً يستجيب للتطورات في العراق والمنطقة ،لذا ينبغي العمل على إيجاد معان ومفاهيم صحيحة وواقعية تبنى على أساساتها الوحدة العراقية بشكل فاعل .
إن الدولة العراقية بمعناها الجديد، يمكن إنشاؤها على مرتكزين: (التوافقية والمساهمة)
مايحقق جملة من الفوائد المتحصّلة من نظام إدارة حيوي ومساهمات سليمة وفعّالة ، فهي من جهة تضمن مصالح المساهمين كلّ بمقدار عمله في إنجاح الشراكة الوطنية ، ومن جهة أخرى تمنع أي تحكّم أو هيمنة قد تؤدي إلى قيام الدكتاتورية، ذلك لأن الدولة لا تعتمد على مؤسس رئيس يمكنه من فرض شروطه،بل على مساهمين يتكونون من أفراد هم عموم الشعب،ومجموعات ممثلة لمكونات ذلك الشعب، وهذه صيغة تخفف من الشعور بالتهميش والغبن عند البعض،والشعور بالإستهداف عند الآخر، ويعتمد نجاحها على قدرة القائمين على العمل ونشاط المساهمين فيه، وبالتالي فالمخاطر ستكون من النوع المرافق لكلّ عمل آخر في الحياة عموماً، لكنها مما يمكن تجاوزه لكونه أقلّ مما سببته الإخفاقات السابقة في شكل الدولة .
لقد جرّب العراق مقولات الدولة الوطنية طوال ما يقرب من تسعة عقود ، وكانت النتيجة من ذلك : إضطهاد وتهميش لمكونات ، واستيلاء واستئثار لأخرى ، ما أدى إلى شروخ وتصدعات مازالت تلقي بظلّها على الواقع العراقي منتجة أزمات تتجدد باستمرار .
ولكي لاتستمر الدوامة التي تمسك بخناق العراقيين دولة وشعباً ، فإن المشروع الوطني العراقي الجديد ( التداولية ) يهدف إلى تقنين الطائفية أو الإثنية لا تعميمها ،وذلك بجعلها واحداً من خيارات ثلاثة تتضمن التالي :
1: تعديل الدستور الحالي من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي ينتخب فيه الشعب رئيساً للجمهورية لأربع سنوات .
2: يكون المرشحون للرئاسة من طائفة واحدة لكلّ دورة .
3: ولأن الشيعة يمثلون الأكثرية السكّانية ، فيمكن جعل حصتهم دورتين متتاليتين ، مقابل دورة واحدة للسنّة العرب ، ومثلها للكرد .
4: يكون لرئيس الجمهورية الصلاحيات المنصوص عليها في النظام الرئاسي على أن لا تزيد مدّة ولايته عن دورتين انتخابيتين كحدّ أقصى .
5: التركمان بشقيهم ( الشيعة والسنّة ) يكون لهم الإختيار في الترشح للرئاسة ضمن الدورتين الشيعيتين إن كانوا شيعة ، أو الترشح ضمن الدورة السنّية إن كانوا سنّة ، أو معاملتهم كقومية يحدد لها مواقع ومناصب رسمية تتناسب وحجمهم وأهمية دورهم .
6: البند أعلاه ينطبق على (الفيلية ) الذين بإمكانهم الترّشح للرئاسة ضمن الدورتين الشيعيتين ،أو من من خلال الدورة الكردية ، أو إن تحدد لهم مواقع قيادية بشكل مستقل، يتناسب مع كتلتهم العددية.
7: يحدد للكلدو/ آشوريين مناصب معينة تتناسب وكتلتهم السكانية ، أو تقديم مرشحهم للرئاسة من خلال الأحزاب والحركات الوطنية – البند ثامناً – أو الترّشح بصفة إفرادية – البند تاسعاً – .
8: إضافة إلى البنود الواردة أعلاه ، ولكي تصبح الطائفية أو القومية خياراً وليس حصراً ، يحقّ للأحزاب والحركات والتيارات السياسية المعترف بها قانوناً – وطبقاً لمبدأ المواطنة – أن ترّشح للرئاسة من تراه مناسباً ، ومن أية قومية أو طائفة أو دين ، وذلك لمنافسة المرشّح ضمن مشروع التداولية ، على أن يشفع طلب الترشيح بموافقة نسبة من أصوات الناخبين في كلّ محافظة وبإشراف الهيئات المختصّة – تحدد النسبة بقانون وبآليات مناسبة – .
9: يحقّ لكلّ مواطن متمتع بحقوقه السياسية ،وبصفته الفردية ، ترشيح نفسه للرئاسة ، على أن يرفق طلبه بموافقة نسبة محددة من أصوات الناخبين في كلّ محافظة – حسب البند ثامناً – .
10: ينتخب أعضاء المحكمة الدستورية العليا من تتوفر فيهم شروط معينة ، من الشعب مباشرة وبترشيح حرّ ، وتكون مهمة المحكمة تفسير مواد الدستور والنظر في المنازعات التي تنشأ بين الهيئات الرسمية أو السياسية ووضع آليات عزل الرئيس أو إقالته في حال مخالفته الدستور،وتكون المرجع النهائي في كلّ مايرتبط بالدستور .
11: يلزم المرشّح للرئاسة بعدم تلقي أية مساعدات مادية أو عينية من أية جهة حزبية أو رسمية،محلية كانت أو إقليمية أو دولية .
12: يغطّي المرشّح حملته الإنتخابية من أمواله الشخصية معروفة المصدر،ومن تبرعات المناصرين والمؤيدين كلّ بصفته الفردية ،على أن لايزيد التبرع عن مليوني دينار عراقي للشخص الواحد كحدّ أقصى .
المتوقع تحقيقه من مشروع التداولية:
1: استعادة اللحمة الوطنية وسيادة الخطاب الوطني،ذلك لأن المرشحين للرئاسة أو الطامحين إليها ،لابد أن يروجوا لأنفسهم بالقيام بزيارات ولقاءات متكررة لكافة المحافظات العراقية دون استثناء ، وسيتبنى كلّ منهم خطاباً وطنياً جامعاً يتعهد فيه الحفاظ على وحدة العراق ودستوره وتماسك شعبه – الخ ، ما يؤدي تدريجياً إلى انحسار التقوقع الطائفي أو الإثني وانفتاح المكونات العراقية بشكل أكمل، لمعرفة كل منهم بحاجته إلى الآخر ، خاصة مع وجود الحافز الدستوري الذي يجعل التوجّه الوطني سلوكاً وخطاباً ، هو المقياس الأوّل للنجاح السياسي .
2: إزالة الشعور بالغبن أو الإقصاء أو الاستهداف ، وترسيخ حقوق المواطن العراقي بحظوظه المتساوية للوصول إلى أعلى مناصب الدولة (الرئاسة ) من دون منّة أو ضغط أو اتفاقات جانبية أو سرّية تنفرط بمجرد اختلاف الزعامات السياسية ، ذلك لأن الحقّ يصبح مقونناً ومصاناً بمادة دستورية تمنع استئثار الأكثرية الطائفية أو القومية بالحكم ، لقدرتها على تأمين أكثرية نيابية في كل دورة ، ما يعيد الأمور إلى التعقيد ، والمشكلات إلى التكرار .
3: ولمزيد من الضبط وإلزام المرشح بتوجه وطني ، ولضمان عدم هيمنة مكّون واحد على الرئاسة بتأمينه أصواتاً أكثر لصالح مرشحه ، يتم إختيار الرئيس بمادة دستورية تلزمه الحصول على أصوات معينة من كافة المحافظات حسبما يحدد من نقاط لكلّ محافظة طبقاً لنسبتها السكّانية ، ويكون الفائز بالرئاسة ، هو المرشّح الذي ينال العدد الأكبر من النقاط من كّافة المحافظات – أوحسبما يحدده القانون – طبقاً لقاعدة ( الفائز هو من يحصل على التمثيل الأوسع ، وليس على الأصوات الأكثر بالضرورة ).
4: وبما أن مشروع ( التداولية)، يهدف إلى الحفاظ على حقوق جميع المكونات، ويفسح في المجال أمام جميع الأفراد ، فمن شأن ذلك توفير فرص حقيقية لتعديل الدستور الحالي بشكل أكثر يسراً وأقلّ ممانعة ، ومن ثم تجاوز الحساسيات عند من يشعر بأن التعديل قد يأتي على حسابه أو الحدّ من مكتسباته .
5: تقدّم التداولية نموذجاً على أهمية الاعتراف بمكونات الشعب من دون مواربة أو شعارات بلا مضمون تعتمد على النوايا والصفقات، ما يعني رسالة اطمئنان إلى أن الجميع شركاء حقيقيون في الوطن وبرضا واتفاق بين أبنائه ،المُعترف كذلك بخصوصياتهم الطائفية أو القومية .
6: إن مشروع التداولية في حال اعتماده ، يجعل من الممكن صياغة مشروع اقتصادي متطور يستجيب لطموحات الشعب العراقي بما توفره إمكانات العراق ،كذلك يجعل إقرار المشاريع ومراقبة تنفيذها أكثر سهولة وحيوية ، وذلك لافتقاد الحافز إلى العرقلة نكاية أو منافسة كما يحدث اليوم بين القوى السياسية ، كذلك يجعل مكافحة الفساد باعتماد نظام إداري ورقابي عصري ، أكثر قدرة وفاعلية ، أما في الجانب الثقافي ، فالمتوقع أن يحدث تأثيراً إيجابياً ينعكس على أنماط الفكر المتداول والثقافة السائدة ، في سبيل الوصول إلى عوالم تتخذ من التعاون الوطني والتسامح والإقرار بحقّ الآخر في الإختلاف ضمن حدود المواطنة منهجاً وأسلوباً ،وذلك بتوفير المناخات الملائمة لبلورة الهوية الوطنية على مبدأ العدالة في الفرص والمنافسة في العطاء .
7: لما كانت الأحزاب والقوى السياسية الحالية قد أخفقت بغالبيتها عن إختراق سقف الطوائف والإثنيات في توجهاتها ونتائجها ،حيث قدمت إنتخابات آذار 2010 وماسبقها ، نموذجاً واضحاً عن عجز إئتلافات كبيرة (دولة القانون – الإئتلاف الوطني – التحالف الكردستاني ) عن إيصال أي نائب لها في المكونات الأخرى ،فيما تمحور أكثرية الناخبين في (ائتلاف العراقية ) ضمن مكّون واحد ،لذا فإن البند (8) حول حقّ الأحزاب والحركات السياسية في تقديم مرشحها كمنافس لمرشح ( التداولية ) سيضع القوى السياسية أمام احتمالات ثلاثة :
أ- أن تنشأ أحزاب بديلة ذات توجهات وخطاب وبرامج وسلوك وطني .
ب- أن تقوم الأحزاب والقوى السياسية القائمة بتعديل خطابها وتوجهاتها وممارساتها ، نحو الوطنية كي تضمن دفع مرشحها للنجاح في منصب الرئاسة .
ج- أما في حال بقائها على ماهي عليه ،فإن من شأن ذلك عرقلة وصولها إلى المواقع العليا في الدولة حيث على المرشح أن ينال التمثيل الأوسع كما جاء أعلاه .
8- يعدّل الدستور ويعاد طرحه للاستفتاء العام حسب مايلي :
– بعد مرور أربع دورات إنتخابية كحد أقصى (إلزامي )
– بناء على طلب من رئيس الجمهورية وموافقة مجلس النواب وعدم ممانعة المحكمة الدستورية .
– بناء على طلب يتقدم به عدد من أعضاء مجلس النواب (يحدد بقانون ) وموافقة الهيئات المذكورة أعلاه .
– قرار من المحكمة الدستورية العليا عند الضرورة .