18 ديسمبر، 2024 9:09 م

العراق خلال العقد القادم

العراق خلال العقد القادم

ليس من الصعوبة بمكان أن نستقرأ ما سيكون عليه العراق خلال العقد القادم في ضوء الوقائع والظروف والأحداث والتوجهات التي رسمت المعالم والخصائص الأساسية للمجتمع العراقي سياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً وأمنياً. ويمكن لأي متابع محايد للأحداث في العراق أن يبني توقعاته بسهولة وموضوعية عن ما سيكون عليه الواقع العراقي خلال العقد القادم ، فجميع الدلائل والوقائع الأساسية واضحة ومشخصة بحيث لو جُمعت ووضِعت بشكل موضوعي ومترابط لأمكن رسم الصورة المستقبلية للعراق.
بدايةً ، لا بد من تبيان الحقائق التالية والتي لا يختلف عليها معظم المتابعين والمحللين داخلياً أو خارجياً .
أولاً : إن النظام السياسي في العراق ، ما بعد عام ٢٠٠٣ ، هو نظام في دور التكوين . فالبرغم من النص الدستوري على إن نظام الحكم يستند الى الإسلوب الإنتخابي ، أي نظام ديموقراطي ، إلا إن الواقع هو ليس كذلك . فنظام الحكم هو في الحقيقة نظام هجيني يجمع بين عدة عناصر متضاربة ومتناقضة ، فهو خليط ما بين مبدأ “الإنتخابات” عن طريق صناديق الإقتراع ومبادئ أخرى متداخلة كمبدأ “التزوير” ومبدأ “المحاصصة” ومبدأ “المشاركة” ومبدأ “الكوتا” ومبدأ “فرض الأمر الواقع” ومبدأ “المذهب أو العشيرة” ومبدأ “الإرادة الداخلية والخارجية” ومبدأ “مصالح الرموز والشخوص المقدسة”. جميع هذه المبادئ إجتمعت لتشكل النظام السياسي الهجيني في العراق. الجهلة فقط من يعترف بأن النظام في العراق هو نظام ديموقراطي صحيح كما هو مطبق في الدول الديموقراطية المتعارف عليها دولياً.
ثانياً : المجتمع العراقي مجتمع معقد تأريخياً وواقعاً بتكوينه الديني والمذهبي والإثني والعشائري والقبلي والفئوي والمناطقي والعائلي مما خلق حواجز صلبة ما بين مختلف فئات المجتمع العراقي بسبب النظم الحاكمة والظروف السياسية التي واجهت العراق خلال تاريخه القديم والحديث. فمعظم من تولوا إدارة الحكم قديماً وحديثاً زرعوا في نفوس المجتمع ، بشكل عام ، مبدأ الكراهية ورفض الآخر وإعلاء فئات إجتماعية مناصرة للحكم على بقية الفئات الأخرى ولم يكن للمبادئ الإنسانية السامية كالحرية والمساواة والعدالة من وجود حقيقي في ضمائر الحكام الذين توالوا على حكم العراق قديماً وحديثاً إلا ما ندر.
ثالثاً : نتيجة لخضوع العراق عبر التأريخ لسلسلة متعاقبة من الإجتياحات والغزو والإستعمار من مختلف القوى الغازية الخارجية إبتداءً من إجتياح هولاكو لبغداد وإنتهاءً بالإحتلالات المتعاقبة عليه من قبل الفرس والأتراك وما ترتب من أحداث وتطورات بعد الحرب العالمية الأولى بتأسيس الدولة العراقية عام ١٩٢١ كنظام ملكي دستوري وما تلاها من أنظمة عسكرية وديكتاتورية وطائفية فقد أصبح العراق بالنتيجة دولة تفتقد لأبسط مقومات الدولة الحديثة في الوقت الحاضر بحيث توزعت ولاءات فئات المجتمع الى جهات غير الوطن. ونتيجة منطقية لهذا التطور التأريخي توزعت ولاءات المجتمع العراقي الى الجهات التي إجتاحته وإستعمرته ، فهناك فئات من المجتمع العراقي ولائها عقائدياً لإيران بسبب عامل المذهب وهناك فئات ولائها الى التعصب المذهبي السني بإتجاه السعودية وهناك فئات ولائها الى تركيا بتأثير الحكم العثماني وهناك فئات تؤمن بالإنتماء أو التعاطف مع دول أخرى بسبب الأيدولوجية الفكرية مثل الأحزاب الشيوعية والأحزاب الدينية وهناك فئات ولائها المطلق للعشيرة أو القبيلة فقط وهناك فئات ولائها الأساسي للقوميتها كأكراد كردستان وهكذا.
رابعاً: أفرزت الأحداث ما بعد عام ٢٠٠٣ حقيقة الواقع العراقي ومجتمعه ومستوى قياداته. فأولى الإفرازات هي البروز المفاجئ للتيارات والأحزاب الإسلامية والشخوص والرموز الدينية والعشائرية والقبلية لتكتسح الساحة السياسية وتسيطر على مقاليد الحكم في العراق تشريعياً وتنفيذياً وقضائياً. ومن الملاحظ إن معظم القيادات التي تتحكم بشئون العراق هم شخوص يتميزون بمحدودية الثقافة والتعليم والتحضر والإدراك والوعي السياسي في إدارة الدولة. وبسبب مستوى ثقافة تلك القيادات وولاءاتها وممارساتها إفتقد العراق لنظام المؤسسات وأصبح عبارة عن نظام أفراد بحيث أصبحت إدارة الدولة تخضع لتوجهات ومزاجات وأجندات الأفراد “المتقاطعة بطبيعتها” الذين يتحكمون بالمفاصل الرئيسية للدولة. وَمِمَّا عزز دور وتأثير تلك القيادات في المشهد السياسي هو تشكيلاتهم للمجاميع المسلحة التي تأتمر فعلياً وعند الحاجة بأوامرهم وبذلك ساهموا بجدارة في تحقيق هدفين رئيسيين هما عسكرة المجتمع من ناحية وترسيخ مفهوم الدولة الموازية من ناحية أخرى . وأصبح من يملك السلاح والمال هو من يتحكم بمفصل من مفاصل الدولة.
خامساً: نتيجة لإستمرار سيطرة تلك القيادات على مقاليد الحكم بعد عام ٢٠٠٣ ولحد الآن تفاقمت المشاكل في العراق سواء على المستوى السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي أو الأمني. ولست بصدد إثبات مدى الخلل في العملية السياسية أو تردي الأوضاع الإقتصادية والخدمية أو التفكك الإجتماعي والتهجير أو الإغتيالات والقتل والتغييب والتصفيات وخلق جيل جاهل وغير مثقف يٓسهٓل ترويضه وما الى ذلك لأن الوقائع على الأرض أفضل دليل.
في ضوء كل ما جاء أعلاه ، ومع إستمرار تلك القيادات بإدارة شئون العراق يمكن أن نستنتج حالة العراق خلال العقد القادم وكما يلي:
١- نتيجة لتعزيز دور ومكانة المليشيات والمجاميع المسلحة فسوف يواجه العراق صراعات مسلحة بين تلك المليشيات بسبب تنافسها المحتدم للإستحواذ والسيطرة على بعض المصادر المالية والإقتصادية المتاحة من ناحية ومحاولة الإستفراد ببعض المواقع والمراكز والمناصب المهمة في الدولة لتعزيز مكانتها وتأثيرها في القرارات المهمة. وهذا بدوره سيفاقم من مشكلة الفساد الإداري والمالي.
٢- كذلك سينسحب العراق في بداية العقد القادم الى مواجهات مسلحة داخل العراق نتيجة الصراعات الإقليمية وسيفقد الكثير من أبناءه البسطاء أرواحهم بسبب تهور بعض من قيادات المليشيات المسلحة “المسماة بالحشد الشعبي” لزج العراق بحروب جانبية ليس له مصلحة وطنية فيها سوى خدمةً لأطراف خارجية. هذا الى جانب نشوب صراعات داخلية مسلحة وزيادة عمليات القتل والإغتيالات التي ستطال بعض الشخوص والقيادات.
٣- سوف تتعمق المشاكل الإقتصادية والإجتماعية خلال العقد القادم وذلك بسبب إنخفاض الموارد المالية من ناحية وارتفاع الإنفاق التبذيري لتسديد مستلزمات الصراعات المسلحة من ناحية ولتسديد مستحقات الجهاز الوظيفي الحكومي المتضخم وغير المنتج من ناحية أخرى ، الى جانب تراكم الديون الداخلية والخارجية ومستحقات تسديدها. كذلك ستزداد نسب البطالة نتيجة زيادة السكان وعدم قدرة الإقتصاد على خلق فرص العمل المناسبة. والكل يعلم مدى خطورة ارتفاع معدلات البطالة خصوصاً بين الشباب مما سيؤدي الى انتشار المظاهر السلبية من النواحي الإجتماعية والأمنية.
٤- نتيجة لزيادة الصراعات بين الفئات الإجتماعية سيزداد الضغط على الحكومة المركزية والسلطة التشريعية لتشكيل الأقاليم ، ومن المتوقع جداً أن ينشأ إقليمين للحكم الذاتي وهما إقليم الأنبار وإقليم البصرة والأسباب واضحة وبديهية. وكذلك سيتجه إقليم كردستان العراق الى خطوات للحكم الذاتي تؤدي الى إستقلالية أكبر نسبياً مما هو عليه الآن ، وسيتم إنضمام محافظة كركوك الى منطقة الحكم الذاتي لكردستان.
٥- سيتعزز التواجد والنفوذ الأمريكي في العراق خلال العقد القادم وسيساهم في معالجة التدهور والإنفلات في الأوضاع تدريجياً بحيث يتم وضع بعض المعالم لخارطة طريق جديدة تمثل نظام حكم ملائم للعراق.