إذا كان من حق بسطاء الناس ان يراهنوا على الحكومة الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، فهذا لا يدعو للملامة. فمثل هؤلاء مثل الغريق الذي يتعلق بقشة. خاصة بعد ان ضاقت بهم سبل الحياة، الى درجة لم يعد بإمكانهم تامين ابسط مقوماتها، كلقمة العيش وجرعة الدواء. لكن ان يراهن من يدعي بانه مثقف وسياسي معارض للعملية السياسية، فهو يرتكب ذنبا كبيرا. حيث يساهم، شاء ام أبى، في خداع الناس وزيادة معاناتهم من جهة، وفسح المجال امام الحكومة الجديدة للعمل أربع سنوات أخرى، لاستكمال خطة تدمير العراق دولة ومجتمعا من جهة أخرى.
هذا ليس تجنيا، فإي متابع لسجل العملية السياسية الأسود، التي وضع تصميمها المحتل الأمريكي، وساهم فيها ملالي طهران وباركتها المرجعية الدينية في النجف، وخاصة فيما يتعلق بتشكيل الحكومات، يستطيع الوقوف على حقيقة الحكومة الجديدة، وعلى الادعاءات الفارغة، والاكاذيب المكررة حول الاوصاف التي تطلقها على نفسها، من قبيل الوطنية والمستقلة والعابرة للطائفية الخ. فهي قد فضحت نفسها بنفسها، خاصة فيما يتعلق بالوعود والتعهدات التي قطعها رئيسها السوداني. ومعروف ما حدث، حيث سار الرجل على الطريق نفسه الذي سار عليه أسلافه. حيث شكل حكومته من الكتل والأحزاب الطائفية والمليشيات المسلحة، وفق مبدا المحاصصة الطائفية والعرقية. حيث حافظت الأحزاب القومية الكردية على منصب رئيس الجمهورية، والأحزاب الطائفية السنية على منصب رئيس مجلس النواب، والأحزاب الطائفية الشيعية على منصب رئيس الوزراء. ناهيك عن الاحتفاظ بالوزارات السيادية والمناصب الهامة. ولا يغير من هذه الحقيقة قيام السوداني بإدخال بعض الوزراء من خارج هذه الكتل، او القيام ببعض الإجراءات الشكلية، ذات الطابع الإصلاحي. فقد سبق لإسلافه القيام بذلك في بداية عهدهم لتعود بعدها حليمة الى عادتها القديمة.
ليس هناك ما يدعو للاستغراب، فلا السوادني ولا غيره ومهما علا شانه بإمكانه التمرد على نظام المحاصصة، او التلاعب بالحصص، او حتى تدوير الوزارات السيادية ما بين الكتل والاحزاب الطائفية، فنظام هذه المحاصصة التي ابتكرها الامريكان، هي كلمة السر لتقسيم المجتمع العراقي تمهيدا لتقسيم العراق، وتدميره دولة ومجتمعا. وهي في الوقت نفسه، الحصن المنيع لأدوات الاحتلال، من الاحزاب والكتل الطائفية والمليشيات المسلحة. وهذا ما يفسر تمسك أمريكا ووصيفتها إيران بنظام المحاصصة وعدم المساس باي ركن من اركانه.
هذه الحكومات وبهذه المواصفات السرطانية، هي النهج الذي اعتمده المحتل الأمريكي، لحكم البلاد بطريقة غير مباشرة، بعد فشله في حكم البلاد بطريقة مباشرة، مرة عن طريق الحاكم العسكري الجنرال جي كارنر، واخرى بواسطة الحاكم المدني بول بريمر، بسبب المقاومة العراقية التي اندلعت بقوة حينها. وهذه تحكي قصة معروفة. فبعد فشل المحتل البريطاني للعراق في مواجهة رجال ثورة العشرين المجيدة، مطلع القرن الماضي وما ترتب عليها من خسائر بشرية ومادية كبيره لقوات الاحتلال، استبدل البريطانيون الحكم المباشر، عبر الحاكم العسكري برسي كوكس والحاكم المدني ارنولد ويلسون، بحكومة محلية برئاسة عبد الرحمن النقيب، لتقوم بمهمة تنفيذ مخطط الاحتلال نيابة عنه. فليس تجنيا، والحالة هذه، وصف الحكومات العراقية المتعاقبة، بانها حكومات احتلال، تعمل لخدمة المحتل وتنفذ مخططاته الغادرة، ولا تعمل من اجل الشعب العراقي وتحقيق طموحاته المشروعة. وبالتالي فان حكومة السوادني تصبح وفق هذا السياق، حكومة احتلال بامتياز.
اما الذين يعتقدون بإمكانية حكومة السوداني القيام بالإصلاحات، التي من شانها إعادة بناء العراق ليصبح قويا ويلعب دوره الذي يليق به كبقية البلدان المتقدمة الأخرى، فهؤلاء لم ينتبهوا بالقدر الكافي، الى ان أمريكا لم تأت الى العراق من اجل بنائه وتقويته وإقامة نظام ديمقراطي يحكمه كما ادعت، وانما أتت من اجل البقاء لعقود طويلة من الزمن، او كما قال السناتور جون ما كين البقاء مائة عام. الامر الذي يتطلب تدمير العراق دولة ومجتمعا وليس بناءه. بمعنى اخر أكثر وضوحا، فان أمريكا لن تقبل بأية حكومة لا تخدم مخططها الغادر. ولقد اكدت الوقائع على مدى عشرين عاما صحة هذه الحقيقة. حيث أصبح العراق دولة فاشلة بامتياز، وبلدا يعم فيه الدمار والخراب في كل ركن من اركانه.
ليس هذا فحسب، فهؤلاء لم ينتبهوا أيضا بالقدر الكافي، من ان لا السوداني ولا غيره قادر على تنفيذ مشروع إصلاحي، في ظل عملية سياسية طائفية، وفي ظل احزاب وكتل فاسدة حتى النخاع؟ ثم اليس السوداني هو مرشح الإطار التنسيقي الذي يقوده الفاسدون والحرامية، وعلى راسهم نوري المالكي وصحبه في الفساد والجريمة، أمثال هادي العامري وقيس الخزعلي وعمار الحكيم؟ ثم هل بإمكان السوداني انهاء سطوة المليشيات المسلحة وما يسمى بالحشد الشعبي، وهو لا يستند الى دعم عسكري او شعبي؟
دعونا نسترسل أكثر، فهناك من يعتقد بان هذه الحكومة مرغمة على تنفيذ برنامج الإصلاح، خشية من عودة التيار الصدري الى الشارع العراقي. الامر الذي يهدد الحكومة بالسقوط، فهذه اكذوبة مفضوحة. فمقتدى الصدر هو الابن البار بامتياز للعمية السياسية وصمام امانها. فهو عاش في ظلها وتنعم بخيراتها ونال الجاه والسلطة بفضلها. ثم اليس مقتدى نفسه الذي قال، بان الحكومات السابقة، وهي بمجموعها فاسدة، ما كان لها ان ترى النور لولا موافقته؟ ثم بماذا نفسر تنازله عن كتلته النيابية الفائزة الأولى في الانتخابات وتقديمها هدية للمالكي؟ الا يهدف هذا الفعل الى اخراج العملية السياسية من مازقها، بعد تعثرها فترة سنة كاملة في تشكيل الحكومة؟
لنغير الاتجاه قليلا ونفترض بطلان هذه الاستنتاجات كلها دفعة واحدة. ترى هل هذه الحكومة هي حكومة فعلا؟ ام انها سلطة احتلال ينضوي تحت لوائها الحرامية والقتلة والعملاء؟ ثم كيف يتوافق الإصلاح او بناء نظام ديمقراطي مع نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وهيمنة عشرات الميليشيات المسلحة التي لا يحدها عرف او قانون؟ ثم ماذا عن راعي العملية السياسية، امريكا المحتلة؟ هل جاءت الى العراق من اجل بناء الديمقراطية وبناء العراق الجديد؟ ام انها جاءت لتدمير البلاد والعباد كما فعلت خلال سنين الاحتلال العجاف؟
اما الذين يعتبرون ان استنتاجات كهذه، على الرغم من صحتها، هي أوهام وخزعبلات، حيث العراق لا يشكل بالنسبة لأمريكا مثل هذه الأهمية، او توجيه أسئلة ساذجة، من قبيل لماذا اختارت أمريكا العراق واحتلاله وتدميره دون غيره من البلدان العربية لتحقيق هذا الهدف الكوني، الذي تسعى أمريكا الى تحقيقه، فأننا نقول لهم ما قالته الوثائق الامريكية، التي كان أبرزها تلك التي اعتبرت العراق سرة العالم ووادي الروافد الثلاثة، دجلة والفرات والنفط، وان العراق هو الوحيد من بين الدول العربية الذي يمتلك الثروة والموارد البشرية. فدول الخليج تمتلك الثروة لكنها لا تمتلك الموارد البشرية، في حين تمتلك مصر وسوريا الموارد البشرية لكنها لا تمتلك الثروة. كما تضمنت وثيقة أخرى، وصف العراق بانه المفتاح للسيطرة على المنطقة العربية والشرق الاوسط، وهو أيضا يملك ثاني أكبر احتياط نفطي في العالم، وان آخر برميل نفط سيخرج من أبار العراق. ومن الجدير بالذكر ان امريكا حاولت السيطرة على العراق، منذ ان كان جزءا من الامبراطورية العثمانية، وحصلت فعلا من الباب العالي على امتياز البحث عن النفط في كل انحاء العراق من شماله الى جنوبه. لكن مصطفى كمال اتاتورك الزعيم الجديد لتركيا أفسد هذه المحاولات.
إذا كان ذلك صحيحا، ترى هل أصبح الاحتلال امرا واقعا وعمليته السياسية قدرا مكتوبا على جبين العراقيين الى يوم يبعثون؟ ام ان هناك امكانية لأسقاط هذه العملية على يد الشعب العراقي، وطرد المحتل وشركائه من دول وأحزاب وشخصيات، سواء عن طريق الانتفاضات الشعبية السلمية، او عن طريق الثورات المسلحة؟
في حياة الشعوب وتجاربها، لم يقدم لنا التاريخ مثلا بان شعبا، مهما كان صغيرا، استسلم لمثل هذه الاقدار، بل على العكس من ذلك، فان قوى الاحتلال، ومهما بلغت من قوة، هي التي استسلمت امام ارادة الشعوب المستعمرة واصرارها على تحرير نفسها. وقد اثبت شعب العراق هذه الحقيقة، فهو قد رفض الاستسلام للمحتل الامريكي العملاق، وشرع في مقاومته منذ اليوم الاول لاحتلال بغداد، والحق به هزائم نكراء اجبرته على سحب معظم قواته العسكرية من العراق، رغم إمكاناته المتواضعة.
اما اليوم، فأمامنا الانتفاضات الشعبية ضد الحكومات التي نصبها المحتل، والتي باتت معروفة للقاصي والداني. خاصة وان منها من قد وصلت الى عقر دارها في المنطقة الخضراء، وهروب اقطابها كالجرذان المذعورة. ويقينا ان الدرس البليغ الذي خطه أبناء ثورة ثورة تشرين العظيمة، التي اندلعت في شهر تشرين الأول عام 2019 غير قابل للنسيان. فهذه الثورة العملاقة، وعلى الرغم من تراجعها وانكفائها الى داخلها لأسباب معروفة، فهي قد ارست أسسا متينة لدى المجتمع العراقي بفكرة الثورة. وهذا ما يفسر خشية المحتل وعملائه في المنطقة الخضراء من اندلاعها بقوة عظيمة هذه المرة. فالمحتل على وجه الخصوص، ومهما اختلفت جنسياته والوانه يعتبر الارادة والعزيمة والاصرار للشعوب اقوى من الطائرة والدبابة والمدفع. هذه ليست تخيلات كاتب هذه السطور، وانما هي حقيقة أثبتها التاريخ النضالي للشعوب ومنها الشعب العراقي. ومن لا يصدق ذلك من عملاء الاحتلال ومرتزقته واقلامه المأجورة، التي تحاول إخفاء هذه الحقيقة العنيدة، سيصحو يوما على جموع الناس وهم يتوجهون الى المنطقة الخضراء لأسقاط العملية السياسية، وتقديم زعمائها الى محاكم الشعب العادلة.
نعم هذا هو الطريق الوحيد لأسقاط العملية السياسية برمتها، واية مراهنة على احداث تغيير من داخل هذه العملية السياسية، هي مراهنة خائبة لن يكتب لها النجاح قطعا.