10 أبريل، 2024 8:30 ص
Search
Close this search box.

العراق بين نارين : النعرة الطائفية والنزعة الشوفينية

Facebook
Twitter
LinkedIn

لا أدعي التبحر بأمور التاربخ ولا أزعم التضلع بقضايا المجتمع ، إلاّ إن حصيلة قراءاتي المتواضعة لتجارب الأول وممارسات الثاني منحاني الجرأة لأزعم ؛ إن المجتمع العراقي يكاد يكون الوحيد الذي تعمل ديناميات مكوناته الانثروبولوجية ( أقوام ، طوائف ، قبائل ) بالضد من تفاعل بناه الاجتماعية ، وتواصل أنماطه الحضارية ، وتكامل نظمه الرمزية . وذلك خلافا”لمألوف بقية الشعوب والمجتمعات الأخرى المماثلة ، التي تمارس فيها تلك الديناميات وظائف ؛ تقوية أواصر تلك البنى ، وتمتين روابط تلك الأنماط ، وتعزيز تلاقح تلك النظم . بحيث استحالت مظاهر فسيفسائه القومي / الاثني ، وتنوعه الديني / المذهبي ، والقبلي / العشائري ، والمناطقي / الجهوي ، واللغوي / اللساني ، إلى أمراض عضال تنخر في كيانه وتضعف قدراته وتبدد ثرواته ، لا بل قل أنها باتت أشبه باللعنة التي رافقته كظله وستبقى لصيقة به إلى ما شاء الله . والواقع أن هذا الأمر لا يعني إننا نبرئ ساحة المجتمعات الأخرى من كونها لم تشهد مشاكل تنوعها السلالي / العرقي ، ولم تعاني آلام الاكتواء بنيران تباينها الديني / المذهبي ، لاسيما خلال مراحل انسلاخها عن أطوار ما قبل الدولة وصيرورتها مجتمعات ناضجة حضاريا”. بيد أنها ما لبثت أن تخطت – في أتون تلك الأزمات والصراعات – تلك الأطوار البدائية وتغلبت على مظاهر طفولتها الحضارية والإنسانية ، واستأنفت من ثم سيرورات تطورها السياسي وتقدمها الاجتماعي وتفوقها العلمي وازدهارها الثقافي ، بعد أن خلعت أردية تعصبها القومي ومزقت شرانق تطرفها الديني . أي بمعنى إن تلك العوامل السلبية التي كانت سببا”في صراعاتها الدينية وحروبها السياسية وتمزقاتها الاجتماعية ، تحولت إلى مقومات ايجابية أسهمت في بناء شخصية اجتماعية عامة عابرة للانتماءات الهامشية ، وإنشاء هوية وطنية شاملة متخطية للولاءات الجانبية ، وإرساء ثقافة عليا كلية متجاوزة للقافات الفرعية . والجدير ذكره في هذا الإطار الموضوع إن تأثير هذه الأسس العميقة وتلك الأصول المتوارية لا يظهر دائما”جليا”للعيان ، بحيث يمكن تحديد مقدار إسهامها في صيرورة ظاهرة من الظواهر بالقياس إلى السابقة عليها أو اللاحقة لها ، مثلما تتيح تشخيص طبيعة دورها في تبلور واقعة من الوقائع بالمقارنة مع تلك المرافقة لها أو المتزامنة معها . وإنما تمارس نشاطها بالخفاء وتؤدي وظيفتها بالنيابة ، عبر سلسلة من الأنشطة السياسية والممارسات الاجتماعية والفعاليات الثقافية ، التي عادة ما تكون مرئية ومألوفة بالنسبة للجميع . ولهذا غالبا”ما يخطئ الكتاب والباحثين بصورة عامة والسياسيين على نحو خاص ، إزاء تحديد المصادر الفعلية للازمات السياسية والصراعات الاجتماعية والتقاطعات القيمية ، التي يتعرض لها المجتمع السياسي ونظيره المجتمع المدني ، معتقدين أن أسبابها لا تربض في الدافع بل تتموضع  في الواقع ، ولا تكمن في الذهنيات بل تتمظهر في العلاقات ، ولا ترقد في التمثلات بل تتجلى في المؤسسات . صحيح كل الصحة إن المطامح السياسية والمصالح الاقتصادية تبرز على رأس قائمة المشاكل والأزمات التي تعانيها المجتمعات الحديثة الاستقلال والبطيئة النمو ، بحيث لا يصعب على أي باحث أو دارس تقديم فرشة واسعة من المعطيات والإحصائيات ، التي تؤكد هذا المنحى من الحراك الملتبس والمتأزم . بيد انه من الصحيح أيضا”إن تلك المشاكل والأزمات ما كان لها أن تبلغ هذا الشأو من التفاقم في المعطيات والاستعصاء في المعالجات ، لولا وجود بواعث خفية ونوابض مستورة تحركها باتجاه الاحتقان النفسي والتفجر السياسي . ولأن معضلات العراق المستديمة هي شغلنا الشاغل لا في هذه الموضوع كما يفصح عنوانه ، وإنما في غالبية المواضيع التي نطرق أبوابها ونخوض غمارها ، متوخين بذلك لفت أنظار ذوي الشأن – من العامة والخاصة – إلى ما نعتقد أنها العوامل الرئيسية التي تسببت لنا – وما تزال – بتلك المصائب والنوائب ، ليس فقط على مدى عقد من زمن الاحتلال الخارجي والاحتيال الداخلي فحسب ،  وإنما طيلة العقود المنصرمة من عمر الدولة المسماة (وطنية) ، والتي لم تخلو هي الأخرى من تأثيرات الاحتلال والاحتيال ، حيث أسهبت كتب التاريخ السياسي والاجتماعي بالحديث عنها والتعليق عليها . وبالعودة إلى فكرة موضوعنا نسارع إلى طرح التساؤل التالي ؛ هل حقا”إن الإشكالية المركزية للمجتمع العراقي تتلخص بوقوعه بين نار (النعرة الطائفية) من جهة ، وبين نار (النزعة الشوفينية) من جهة أخرى ، بحيث إذا ما أتيحت الفرصة لإخماد تلك النيران يتمكن من التنعم بالاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي الطمأنينة النفسية والبحبوحة الاقتصادية ، فضلا”النهوض من كبوته التاريخية والتخلص من محنته الحضارية ؟ . الحقيقة إن حصر أزمات العراق ومعاناة شعبه ضمن نطاق تلك الإشكاليات يعد ضربا”من التبسيط المخل والاختزال الفاضح ، لاسيما وان هناك الكثير من المظاهر التي تشير إلى أن هناك ضروب أخرى من الأمراض المتوطنة داخل كيان هذا المجتمع المستباح أفقيا”وعموديا”. ينبغي الإقرار إن في كل ظاهرة اجتماعية أو واقعة تاريخية ، هناك ديناميات مولدة أو مؤسسة لديناميات أخرى ثانوية أو تابعة ، تستمد من الأولى طاقتها على الفعل وتتلقى زخمها على التأثير ، وبالتالي فهي لا تمارس وظيفتها ولا تلعب دورها إلاّ في حدود ما تسمح به الديناميات الرئيسية ، التي غالبا”ما تكون في واجهة الحدث أو مقدمة الواقعة . والحال فان ظواهر تفكك نسيج المجتمع العراقي وتذرر مكوناته السوسيولوجية إلى أصولها الأولية ، وتبعثر عناصره الانثروبولوجية إلى خلفياتها البدائية ، ما هي إلاّ نتاج وإفراز إشكاليتين رئيسيتين هما بمثابة الديناميات الحاكمة والمؤطرة لمجمل السيرورات الكائنة في صلبه والعلاقات العاملة في محيطه ، بحيث إن حصيلتهما الإجمالية لا تلبث أن تتقاطع داخل كينونة الشخصية العراقية ، ليس فقط على صعيد إشكاليات وعيها لذاتها الجمعي ، بل وعلى ومستوى إشكاليات تعاطيها مع الآخر الجواني والبراني . وهكذا فإننا نعتقد إن (النعرة الطائفية) و (النزعة الشوفينية) كانتا وستبقيان الأصل والأساس الذي ينبثق عنهما كل المشاكل والإشكاليات الأخرى ، واللتان لم تبرحا تشكلان البوصلة المتحكمة باتجاهات وخيارات هذه الشخصية الملتبسة . ففيما يخص الإشكالية الأولى (النعرة الطائفية) ، فهي بقدر ما تضرب جذر الوحدة الاجتماعية من خلال دق إسفين الانشقاق بين أتباع الدين الواحد ، بقدر تفضي إلى استشراء مظاهر التعصب لهذا الجماعة دون تلك والتطرف لهذا الاعتقاد دون ذاك ، الأمر الذي يرجح خيارات الكراهية المتبادلة  والعنف المتقابل ، بدلا”من اللجوء إلى صيغ التعايش السلمي الحوار البناء . هذا في حين تمارس الإشكالية الثانية (النزعة الشوفينية) وظيفتها التقويضية ، من خلال نسف المدماك التاريخي والحضاري والثقافي للمجتمع العراقي ، وذلك عن طريق تفكيك روابط شخصيته الاجتماعية الهلامية أصلا”، وتقطيع أواصر هويته الوطنية الملتبسة أصلا”. وبالتالي إذكاء روح التباغض والتنابذ بين مكونات الوطن الواحد ، وذلك بالعزف على أوتار الأفضليات القومية / العرقية ، والاحقيات السياسية / الاقتصادية ، والاقدميات الجغرافية / التاريخية ، والأكثريات السكانية / الديموغرافية . وكما هو واضح فان هاتيك الإشكاليتين تعملان بالتعاون والتعاضد ، بحيث إن الأولى تستدعي حضور الثانية وبالعكس ، وفقا”لجدليات ما نسمح لأنفسنا تسميتها (التدمير الذاتي) – سنخصص لها موضوع مستقل – التي من نتائجها وضع العراق بين نارين ؛ نار الصراعات الطائفية الدامية التي تستهدف النسيج الاجتماعي بكل مكوناته ، ونار حروب التقسيم المدمرة التي تستهدف الكيان الوطني بكامل سيادته !!  .
[email protected]

 

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب