بانسحاب التيار الصدري من العملية السياسية تبدلت الأحوال، وتغيرت التوازنات، وأصبح الجميع في انتظار أحد أمرين مجهولين، إما رسوّ السفينة على شاطيء أمان، أو دخولها في موسم عواصف داخلية وخارجية من الوزن الثقيل.
وفي عز هذا الترقب والحذر والخوف تطوع قيادي في ائتلاف دولة القانون لصاحبه نوري المالكي، ليؤكد أن “الإطار وضع شروطا عديدة لمنصب رئيس الوزراء، منها الكفاءة والنزاهة والقدرة على حل الأزمات والخبرة السياسية في إدارة الحكومة”، و”الإطار يدرك تماما أن هذه الصفات تنطبق على زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي”، وأنه “مطروح بقوة داخل الأطار”.
ربما يكون هذا بالونَ اختبارٍ أرادت به إيران قياس ردود الأفعال الشعبية الشيعية والكردية العراقية، تحديدأ، والأمريكية والعربية، أو قد تكون رسالة تشفي شخصية تعمَّد إرسالها المالكي، وليس من إيران، لمكايدة مقتدى الصدر وتعييره بهروبه من المعركة.
أما إذا كان يفكر جديا وعمليا بالعودة إلى السلطة فذلك يعني أنه لا يقرأ، وإن قرأ لا يعي، وإن وعى لا يعقل ولا يرعوي.
فاختيار رئيس حكومة عراقية جديدة، في هذه المرحلة الدقيقة، بالذات، لم يعد شأنا محليا تتصرّف به الكتلة الأكبر في برلمانٍ غالييةُ أعضائه من الخاسرين في الانتخابات، بل هو مرتبط بعوامل عديدة حاسمة حازمة محلية وإقليمية ودولية، أولها وأهمها الموقف الذي على إيران أن تتخذه من روسيا في أوكرانيا، ومن روسيا في سوريا، بوضوح لا لبس فيه، خصوصا في أعقاب قيام إسرائيل بتعطيل مطار دمشق، ثم قيام الطيران الروسي بالرد بقصف قاعدة التنف التي تتواجد فيها قوات عسكرية تابعة لحلف الناتو، وهو ما قد يشعل حربا دامية مباشِرة، هذه المرة، بين أمريكا وروسيا في سوريا يكون الوجود الإيراني من ضمن أهدافها.
فإذا قرر الإيرانيون فرض نوري المالكي رئيسا للحكومة العراقية الجديدة، أو أيِّ واحد آخر يشبهه في طائفيته الفوّارة، وعقيدته القائمة على أساس أن (الدولة في خدمة المذهب)، وعلى ضرورة قيام أحفاد الحسين بأخذ ثأرهم من أحفاد يزيد، فمعنى ذلك أنهم باقون في معسكر الممانعة والمقاومة، ومع روسيا والصين، وبنفس شعارات الأربعين سنة الماضية الواعدة بمحو إسرائيل، وبجعل البيت الأبيض حسينية.
ويعني أيضا أنهم قد اختاروا التصعيد والمواجهة مع المعارضين في الداخل العراقي، والاستعداد لاستقبال انتفاضة شعبية مرتقبة، والذهاب إلى أقصى حالات التحدة والمكاسرة مع التحركات الأمريكية والإسرائيلية والعربية الأخيرة الهادفة إلى مقاتلة نفوذهم في المنطقة.
أما إذا استبعدوا المالكي أو أي شبيهٍ له آخر مكروه شعبيا شيعيا وكرديا وسنيا، ومرفوض من المرجعية وأمريكا والدول العربية، واختاروا رئيسا معتدلا ومقبولا في الداخل والخارج، فذلك يعني أنهم قرروا أن يجنحوا إلى التهدأة، وإلى المهادنة مع ثوار تشرين العراقيين ومع أمريكا وإسرائيل والسعودية، وعزموا على تخفيف وجودهم في سوريا. وهو ما سوف يجنب العراق الاحتقان، والاحتراب المحتمل.
والعامل الثاني المهم هو قبول الحزب الديمقراطي الكردستاني وحليفِه ائتلاف السيادة السني بالمشاركة في حكومة إطارية يرئسها المالكي أو شبيهه، بعد الموافقة على شروط الحزب ومَطالبه التي يصفها الإطاريون بأنها تعجيزية، وخاصة ما يتعلق منها بالنفط والمناطق المتنازع عليها ورواتب الموظفين والبيش مركة، ثم تقديم الفصائل التي قصفت أربيل بالصواريخ والمسيرات إلى المحاكمة.
وقد هدد القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، بنكين ريكاني، بانسحاب الحزب من البرلمان والعملية السياسية، أسوةً بالكتلة الصدرية، في حال “خرق المسائل الموضوعية”، على حد قوله، وأضاف قائلا، “نحن لسنا موظفين لدى إيران”.
ويبدو أن نوري المالكي لم يكن صبورا عندما تعجل وجمع أعضاء الإطار التنسيقي في منزله، في الأسبوع الماضي، لتعبيد طريق عودته إلى الرئاسة من جديد، وهو ما لن يتحقق بسهولة رغم البيان الحلو المعطر الرقيق الذي أصدره عن ذلك الاجتماع، والذي تعهد فيه بأن تكون “الحكومة القادمة حكومة قوية ومقتدرة، تقدم الخدمات، وتحافظ على وحدة وسيادة البلاد، وتسهم في حفظ مكانة ودور العراق في المنطقة والاقليم”.
فبرغم أن هذا كلام جميل إلا أن تصديقه أمر في غاية الصعوبة، بسبب السجلَّ الضخم الذي يتبع هذا الرجل كظلّه، وسجل إخوةٍ له في البيت الشيعي، هادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض، يُحمّلهم العراقيون مسؤولية ثلاثة أرباع البلاوي التي ذاقوا مرارتها في أعوام حكم أحزابهم وفصائلهم وشركائهم في المحاصصة.
ورغم أن خروج التيار الصدري من العملية السياسية قد أخلى الساحة لنوري المالكي وأعوانه ومؤيديه، إلا أنه جعل الوطن العراقي كله، وليس الإطار وحده، في مفترق طريقين، طريق الحلال أو طريق الحرام.
وتشير الأخبار المُسربة من خلف أبواب اجتماع الإطار التنسيقي المغلقة الذي حضره رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، إلى أن الأمور توحي بأن الأمور ماضية نحو التأزم والاحتقان، وليس نحو التهدأة والمسالمة والاعتدال.
ففي هذا الاجتماع تجرأ قيس الخزعلي، قائد مليشيا عصائب أهل الحق، فهدَّد رئيس الوزراء بمحاكمته وفق قانون تجريم التطبيع إن هو شارك في مؤتمر القمة الذي سيحضره الرئيس الأمريكي بايدن وقادة دول مجلس التعاون الخليجي والملك الأردني والرئيس المصري، في 16 تموز/يوليو المقبل، الأمر الذي جعل الكاظمي يخرج عاجلا من الاجتماع وهو في حالة غضب شديد.
وأغلب الظن أن المتشددين في البيت الشيعي وفي الإطار التنسيقي مصرّون على الاستحواذ على الحكومة القادمة على طريقة تمسكن إلى أن تتمكن، وعلى جعلها خالصةً للجارة إيران تخوض حروبها مع أعدائها الكثيرين دون أي اعتبار لإرادة الشعب العراقي ومصالحه. وهم بهذا يُقربون موعد انفجار ثورة شعبية جديدة منتظرة لن ترحمهم هذه المرة.