كَثرت التنظيرات والتحليلات بما ستؤول اليها نتائج الانتخابات التي جرت في العراق في الثلاثين من نيسان ابريل 2014م، وبخاصة بعد ان تكشفت النتائج وتم الاعلان عنها ظهر الاثنين 19/5/2014م، حيث اعتبرتها معظم التيارات والتكتلات والائتلافات مفاجأة ما بعدها مفاجأة ليس بالحسبان، ولاسيما بعد ان اجتمعت وبصورة استثنائية كتل سنية وشيعية وكردية على ابعاد دولة القانون من الحكم رغم أنها حازت على 95 مقعدا كأكبر ائتلاف وهو رقم أكثر مما حصلت عليه أقرب ثلاثة تكتلات هي الأحرار والمواطن ومتحدون ومجموعها 84 مقعداً، واجتمعت الارادات على عدم تولي رئيس الوزراء نوري المالكي ولاية ثالثة رغم أنه حاز على اكثر من 700 ألف صوت لوحده ويبعد عن أقرب منافسيه وهو الدكتور اياد علاوي من حيث الاصوات بنصف مليون صوت.
ويكاد يقع اليوم ما وقع في انتخابات عام 2010م عندما اختلفت الارادات على منصب رئاسة الوزراء والأحقية في توليه بين قائمة علاوي التي حصلت على 91 مقعداً وقائمة المالكي التي نالت 89 مقعداً، وكان الدكتور علاوي يرى الأحقية له في تشكيل الحكومة فيما كان يرى السيد المالكي انه هو صاحب الحق، وعندما شب الخلاف قضت المحكمة الدستورية بأحقية الكتلة النيابية الكبرى من داخل مجلس النواب بتشكيل الحكومة وهو تفسير للمادة 76 من الدستور العراقي الذي نص على ما يلي: (يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء)، فالكتلة النيابية بهذه الحالة هي التي تتشكل داخل مجلس النواب وليس الكتلة الفائزة من الانتخابات، ولهذا اعطي الأولوية للتحالف الوطني العراقي بتشكيل الحكومة عندما استطاع أن يشكل الكتلة الكبيرة أي 50 زائد واحد من أصوات أعضاء مجلس النواب العراقي، وأصبح المالكي رئيسا للوزراء مرة ثانية بعد أشهر من الشدّ والحل.
وكما أوضحت في حينها، عبر مقالات ولقاءات متلفزة، أن الساسة العراقيين غفلوا عن تجارب الآخرين في مثل هذه المواقف فذهبوا الى المحكمة الدستورية، في حين كان يفترض بهم أن يأخذوا من الديمقراطيات العريقة تجاربها، ومن المفارقات أن ما حصل في انتخابات العراق عام 2010م حصل في انتخابات مجلس العموم البريطاني وفي العام نفسه، فحزب العمال كان هو الحاكم خلال الانتخابات وفشل في تحقيق الأغلبية البسيطة 50 زائد واحد، كما لم يحقق حزب المحافظين الأغلبية المريحة رغم حصوله على مقاعد أكثر من غريمه، فأطلق على مجلس العموم البريطاني حينها بالبرلمان المعلق، فليس هناك فائز أو خاسر رغم انخفاض مقاعد حزب العمال وارتفاعها عند حزب المحافظين، وقد اقتضى العرف الانتخابي في بريطانيا أن يكون للحزب الحاكم الأولوية في تشكيل حكومة وحدة وطنية، فعندما فشل في المهمة ذهب رئيس الحزب الحاكم الى الملكة كسلطة عليا وقدّم استقالته، فقامت الأخيرة عصر ذلك اليوم بتفويض حزب المحافظين لتشكيل الحكومة، فتحالف مع حزب الأحرار وشكّل حكومة الوحدة الوطنية القائمة حتى اليوم.
فالنظام الانتخابي في العراق لا يختلف عن النظام الانتخابي في بريطاني، ولذلك كان يفترض بالساسة العراقيين أن يعملوا بالمثال البريطاني فيأخذ المالكي حظه في تشكيل الحكومة باعتباره كان في سدة الحكم عندما لم تحقق أيّا من الكتل والأحزاب الأغلبية النيابية (50 + 1)، ولما احتاجوا اللجوء الى المحكمة الدستورية، لأن رأيها هو حل جزئي موضعي ومؤقت ربما لا ينسجم مع طبيعة العمل النيابي في مثل هذه المواقف الانتخابي، فالكتل كلها رغم تفوق المالكي في عدد الأصوات تتحدث عن رغبتها لتشكيل الكتلة الأكبر رغبة في ابعاده وبذلك تتجاوز حق الحزب الفائز بأكثرية الأصوات مستندة في ذلك الى رأي المحكمة الناقص من أصله، فكل كتلة تعتبر رأي المحكمة شماعتها وهي ربما محقة في ذلك، لأن المحكمة قضت بأحقية الكتلة النيابية داخل البرلمان وليس مع اعلان نتائج الانتخابات، وبالتالي كل كتلة تسعى من جانبها لتحقيق مراد المحكمة.
ولكن السؤال العريض: مَن له الأسبقية في تشكيل الكتلة النيابية الأكبر كمرحلة أولى لتشكل الحكومة، فالمحكمة لم تبت بذلك، وهذا ما جعل كل كتلة حتى الصغيرة منها تطمح بتشكيل الكتلة الأكبر، أي لو استطاعت كتلة تملك 10 مقاعد من تشكيل الكتلة النيابية الكبرى فيكون لها الأولوية بتشكيل الحكومة، وهنا يقع الظلم الكبير ليس على الكتلة التي حصلت على أكبر الأصوات فحسب، بل على الشعب الذي أعطى صوته للكتلة الكبرى وحجزه عن الكتلة الصغيرة التي صارت، وبفضل تفسير المحكمة المنقوص، صارت في سلّم واحد مع الكتلة الكبيرة، وهذا الظلم بعينه، وهي مسألة عقلائية يغالطها من لا يفقه ألف باء العمل الانتخابي، أو يفقهها ولكنه يغالط ارادة الناخب رغم أنفه.
من هنا فإن الوضع السليم للتجربة العراقية في انتخابات 2010م وانتخابات 2014م هو أن تُعطى الأسبقية للكتلة الحاكمة بتشكيل الكتلة النيابية الكبرى تمهيدا لتشكيل الحكومة ما دامت الأغلبية البسيطة لم تحالف أيا من الكتل الانتخابية، وهو نظام انتخابي معمول به في بريطانيا وغيرها من البلدان الديمقراطية التي تحترم نفسها وناسها وقانونها.
وأما بخصوص رئاسة الوزراء فإن حصرها بولاية واحدة أو اثنين أو ثلاثة يتعارض مع النظام السياسي الجديد في العراق القائم على التعددية الحزبية والسياسية والتبادل السلمي للسلطة والذي أقره الدستور العراقي، وحتى يتم تقييد مدة الحكومة بولايتين، فإن الأمر بحاجة الى تغيير الدستور العراقي، وحتى ذلك الوقت فإن النظام الانتخابي الديمقراطي يحكم بأن رئيس الحزب الذي خضع لارادة الناخب عبر صناديق الاقتراع يعتبر في واقعه رئيس وزراء مفترض، فاذا ما فاز حزبه بالاكثرية المطلوبة أو بأكثرية نيابية ينتقل الى سدة الحكم مباشرة ويُعهد اليه بتشكيل الحكومة، من هنا فإن الدكتور اياد علاوي هو رئيس وزراء مفترض وكذلك المهندس باقر جبر الزبيدي وبهاء الأعرجي واسامة النجفي ونوري المالكي وصالح المطلك ومحمد الدراجي وأمثالهم، وحتى زعيم الحزب او الكتلة الذي ظفر بمقعد لنفسه فقط هو منهم، فكل واحد من هؤلاء هو رئيس وزراء بالضرورة فرضه النظام الانتخابي التعددي الذي عليه النظام السياسي في العراق، ولا يمكن لاحد سلب هذه الصفة منه، ويظل زعيم الحزب داخل البرلمان يحمل الصفة نفسها حتى وإن جلس في مقاعد المعارضة وحكم غيره من الزعامات.
ومن هنا فلا يحق لأحد سلب الحق عن أحد في تولي رئاسة الوزراء ما دام النظام الديمقراطي يقضي بذلك، نعم تقع المسؤولية على الحزب أو الكتلة نفسها في تشخيص الزعيم وترشيحه من خلال انتخابات داخلية وتقديمه للأمّة، فإذا ما فشل الزعيم في الانتخابات الداخلية وفاز غيره، فيكون من حق الغير تولي رئاسة الحكومة فيما اذا فاز وفازت كتلته بالأغلبية المطلوبة، وفي التجربة العراقية القائمة فإن المالكي له كامل الأهلية والصلاحية في تولي رئاسة الوزراء لدورة ثالثة ورابعة وخامسة إذا ظفر بقبول حزبه ورضا الشعب عبر الانتخابات، وهذا الحق ينسحب ايضا على غيره إذا ما حقق الذي حققه المالكي.
اما الذي يتحدث خلاف الدستور العراقي وخلاف النظام الانتخابي الديمقراطي، فهو بحاجة الى قراءة جديدة للدستور العراقي ومعاينة بعين البصر والبصيرة الى تجارب الديمقراطية في المدنيات المتحضرة، واكرر ما كتبته من قبل، بأن النظام الديمقراطي في العراق لا يتحمل وجود قيادات تاريخية وزعامات وراثية خارج مجلس النواب العراقي تطالب في الوقت نفسه أن يكون لها رأي في ادارة السلطة في العراق، فالسلطة أخذت شرعيتها من الشعب، وليس من حق غير المنتخب فرض شروطه وارادته بزعم أنه ولي أمر الحزب أو الكتلة، نعم يصح ذلك لو ان هذا القائد وذاك الزعيم دخل الانتخابات وحصل على مقعده في مجلس النواب، فيكون له رأيه كنائب ورأيه كزعيم كما هو الحال على سبيل المثال مع الدكتور إبراهيم الجعفري الذي يحمل صفة النائب وصفة زعيم قائمة.
ومجمل القول في هذه المعمة التي يراد فيها سلب ارادة الشعب العراقي، على الساسة العراقيين العمل بما هو قائم في الديمقراطيات العريقة، في أن يكون للحزب الحاكم الأولوية في تشكيل الحكومة اذا لم يحقق أي من الكتل والتيارات الأغلبية المريحة، فاذا عجز عن ذلك ضمن مدة محددة يُصار الى الحزب التالي من حيث عدد المقاعد، وهكذا حتى يتم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ولذلك وببساطة ان الذين نادوا بتغيير المالكي وشعروا أن بوصلة الجماهير أخطأت الهدف، فبامكانهم وبالقانون سد الطريق على المالكي بعدم التحالف معه، وبالتالي تركه لوحده، وعندما يعجز عن تشكيل الحكومة الوطنية أو حكومة الأغلبية السياسية كما ينادي بها، حينئذ يكون من حق كتلة التيار الصدري السعي لتشكيل الحكومة بوصفها الثاني (34 مقعدا) من حيث عدد المقاعد بعد القانون (95 مقعداً)، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإن لزعيم الكتلة المنتخب حزبيا والمنتخب جماهيريا أن يرشح نفسه لرئاسة الوزراء لأكثر من دورة، كون الدستور منحه هذا الحق، هذا أولا، وثانياً لأن النظام الحزبي حاكٍ عن ذلك، إلا ان يقصيه الحزب نفسه كما هو الطبيعي في النظام البرلماني، وهنا لابد من الاشارة إلى ان الدكتور الجعفري عندما لم يفز في انتخابات حزب الدعوة الاسلامية وفاز بها المالكي، خرج من الحزب وعمد الى تأسيس حركة الاصلاح الوطني، لأنه يدرك بأن وجوده في الحزب خارج محور الزعامة لا يؤهله لأن يرشح نفسه لرئاسة الوزراء، وهو يرى في نفسه الأهلية في تسنم سدة الحكم، فعمد الى تأسيس حركته على أمل أن يحصل على مقاعد تؤهله لتولي الحكومة لأنه على دراية أن زعيم الحزب هو رئيس وزراء مفترض.
وحتى نصل الى هذه المرحلة من العمل السياسي السليم، فإن مجلس النواب العراقي عليه أن يمارس دوره في بث ثقافة التعددية السياسية، وأول الخطوات في هذا الطريق الطويل هو سن قانون الأحزاب الذي بالتأكيد ترفضه كل الجهات القائم منهاجها الداخلي على قاعدة القيادة المقدسة الغير خاضعة لنظام الانتخابات الداخلية، وربما تأكيد المالكي على إعمال هذا القانون وتنفيذه، أحد عوامل التخندق المضاد له.