اعتبر مؤتمر باريس الدولي للسلام والأمن في العراق نقطة أنطلاق التحالف الدولي الذي ستقوده الولايات المتحدة في الحرب المرتقبة ضد تنظيم الدولة الاسلامية المتطرف في العراق وسوريا ورغم ضبابية هذا التحالف من حيث عدد الدول المشاركة به؟ وما اذا كانت مشاركتها جميعا عسكرية أم أنه سيكون هناك تقسيم للأدوار بين دول تحارب ودول تقدم الدعم اللوجستي و المعلومات الاستخباراتية وأخرى تكتفي بالتمويل المالي للحملة العسكرية فقط؟ وهل ستقتصر العمليات العسكرية على القصف الجوي أم ان الأمر سيتطلب وجود قوات برية على الأرض؟ وهل هناك سقف زمني محدد لهذه العمليات؟ الا ان المؤتمر وفر فرصة ذهبية للحكومة العراقية للحصول على الدعم الدولي الذي طال انتظاره والتي كانت سياسات المرحلة السابقة أحدى أهم معوقاته خصوصا” وان هذا الدعم يأتي في ظل ظرف استثنائي و صعب على العراق والعراقيين مع انبثاق حكومة جديدة أخذت على عاتقها تصفية تركة الحقبة المالكية الثقيلة في الوقت الذي لايزال تنظيم الدولة الاسلامية يحتل مساحة كبيرة ومهمة من الأراضي العراقية .
ان العراق بحاجة ماسة للدعم الدولي في مواجهة ارهاب هذا التنظيم الأصولي المتطرف سواء كان دعما” سياسيا” أو عسكريا” ولعل الأخير هو المطلوب عراقيا” وبشدة بعد أن ثبت عجز الأجهزة الامنية عن القيام بهذه المهمة والمقصود بعجزها هنا هو ليس كما يروج له البعض في صد هذا التنظيم ومنعه من اكمال مسيرته الدامية نحو العاصمة بغداد ومدن الجنوب فقد قدم منتسبي هذه الأجهزة مدعومين بأبناء ناحية أمرلي وقضائي حديثة والضلوعية ملاحم في تصديهم للتهديدات الارهابية كما توقف الزحف الداعشي في ديالى وحزام بغداد ولكن عجزها هو عن تحرير الأراضي المحتلة من قبل التنظيم في أحداث نكسة الموصل وماتلاها وهو أمر يتطلب التمهيد السياسي قبل التدخل العسكري خصوصا مع انقطاع صلة الوصل بين سكان تلك المناطق وقوات الجيش والشرطة الاتحادية نتيجة السياسات الحكومية السابقة و الممارسات الطائفية لبعض عناصر هذه القوات في مواجهة السكان المحليين وممازاد الطين بله القصف العشوائي الذي أستمر على تلك المناطق بعد
سقوطها وكأنه لايريد تحريرها من قبضة الارهاب كما هو معلن انما تخليص ساكنيها من الحياة أصلا” وتهديم البنى التحتية لمدنهم (قبل أن يصدر قرار حكيم من رئيس الوزراء بايقافه) ثم يطلب منهم بعد ذلك التعاون مع القوات الأمنية لتحرير مناطقهم !!! واذا كان العراق بحاجة لدعم دولي عسكري لالحاق الهزيمة بداعش فأنه بدون معالجة أسباب ظهور هذا التنظيم وأنتشاره فأن هذا التنظيم سيعود بنسخة أخرى وأسم أخر وأيدولوجية أكثر تشددا” بعد فترة من الزمن، فمن السهولة أن تقضي على تنظيم ارهابي لكن الصعوبة تكمن في تجفيف منابع الارهاب ومعالجة الأسباب التي أدت الى نشوء الظاهرة عموما” وهنا لابد أن يكون القرار عراقيا” بأمتياز و لايتم الا عبر تقديم حزمة من الاصلاحات الحقيقية في المجالات السياسية والأقتصادية والأمنية والقضائية والقانونية والأجتماعية مع مايتطلب ذلك من وجود ارادة سياسية صادقة لا مجرد حلول ترقيعية ترضي الحاكم وزبانيته كما كان معمول به سابقا” . فلو أننا نجحنا طيلة 11 عام الماضية في بناء دولة مؤسسات وقانون وفقا” للدستور لكنا قد تمكنا من التصدي لداعش وهزيمتها وعدم السماح لاي قوى أجنبية بالتدخل في الشأن العراقي بأي حجة كانت ولكن واقع الحال يقول بأننا أضعنا عاما” بعد عام ونحن نغرق في وحل الفساد الاداري والمالي والطائفية والمحسوبية وخلافات الكتل السياسية وموجات الارهاب الدموي الذي قتل الناس على الهوية فغدونا مثالا” صارخا” للدولة الفاشلة وهو ماجعل الحكومة والقوات المسلحة ضعيفة عاجزة عن القيام بدورها الرئيسي بحراسة حدود الوطن وحماية الشعب من أية تهديدات ارهابية خارجية فكان التدخل الأجنبي للتصدي لخطر التنظيم الارهابي نتيجة حتمية لذلك فكيف يتوقع أن يسكت الغرب عن خطر داهم على مصالحه أو يعتمد على الحكومة العراقية التي لاحول لها ولاقوة ولم تفلح في رعاية مصالح بلادها وحماية أبنائها من باب أولى .
وبالعودة الى التدخل العسكري الدولي المنتظر فقد خضع هذا الموضوع شأنه شأن كل المواضيع في العراق الى المزايدات السياسية بين الأحزاب والمنظمات السياسية وخصوصا تلك التي تمتلك أذرع مسلحة والتي رأت بأن هذا التدخل هو انتقاص من السيادة العراقية وهو بوابة لعودة الاحتلال !!! ان مايجب على هذه القوى ادراكه هو أن العراق الجديد عبارة عن هجين ايراني أمريكي وهي حقيقة مره لابد من الاعتراف بها كخطوة في طريق ازالتها وان أي حديث عن انتقاص السيادة العراقية ينبغي أن يشمل كل طرف أقليمي ودولي يتدخل في الشأن الداخلي لا أن يتم النظر في الموضوع بعين واحدة مع اغماض العين الأخرى وهو الأسلوب السائد طوال السنوات الماضية فقد غضت القوى السياسية الشيعية النظر عن التدخل الايراني والذي وصل الى حد فرض الوصاية على العراق خصوصا” في ظل الولاية الثانية للسيد المالكي وظهر أثره جليا” في مسألة أختيار مرشح التحالف الوطني لتكليفه بتشكيل الحكومة بينما شنت هجوما” عنيفا” على التدخلات التركية والقطرية والسعودية في العراق ودعمهم للجماعات المسلحة وهو ماقابله الساسة السنة بالحديث عن التدخل الايراني ومخاطره وأثاره وميليشياته مقابل سكوت رهيب عن التدخلات القطرية والسعودية والتركية في العراق ونفيها من أساسها وكأن كل طرف بات يحلل لمعتنقي مذهبه من الدول المجاورة التدخل في وطنه ويحرمه على أتباع المذهب الأخر وهو أمر يندرج تحت عنوان النفاق السياسي والطائفي ولا يمت للوطنية بصلة وذات الأمر وان بصورة مختلفة تكرر هذه الأيام مع رفض الجماعات الشيعية المسلحة (لعبت دورا” مهما” في صد هجوم
داعش لكنها تواجه طائفية التنظيم بطائفية مضادة ممايضفي صفة طائفية على الصراع نحن بأمس الحاجة لابعادها عن الواقع الميداني كما ان انهاء وجودها هو من أهم المتطلبات الوطنية اذا ما أريد بناء دولة المؤسسات والقانون حقيقية في العراق) التدخل العسكري الامريكي وتهديدها بالانسحاب من ميادين المعركة في حال وجود قوات برية أمريكية قد تستدعيها الضرورة مع عدم تفسيرها لنا عن سر سكوتها عن كل التدخلات الايرانية!! طوال السنوات السابقة والتي بات انكارها ضربا” من ضروب المستحيل اذا كان الأمر يتعلق بالسيادة الوطنية؟؟ ولعل تفسير تلك التناقضات المريبة يكون بالنظرة الموضوعية لردات الفعل الصادرة عن ثلاث عواصم رئيسية في المنطقة من الحلف الدولي ضد داعش وهي طهران،أنقرة،الدوحة، فايران التي كانت تحث حليفيها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والرئيس السوري بشار الاسد على طلب الدعم الدولي في مواجهة داعش أتت رياح هذا التحالف بما لاتشتهيه سفنها والأمر هنا لايتعلق بمجريات الأحداث في العراق الذي سيكون التدخل الدولي فيه لمصلحة الحكومة العراقية التي تربطها علاقات جيدة مع طهران بقدر مايتعلق بسوريا خاصة بعد قرار الكونغرس الأخير بتدريب وتسليح وتمويل المعارضة السورية المعتدلة وانشاء معسكرات بهذا الخصوص في المملكة العربية السعودية ممايعني ضياع فرصة الاسد التاريخية باستغلال الضربات العسكرية ضد داعش لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرتها بل ان الأمر قد يتطور الى سقوط نظامه اذا ما تجرأ على التصدي للطائرات الامريكية كما وعد ومن هنا ندرك خطورة هذا الحلف على المصالح الاستراتيجية الايرانية التي قد تفقد حليفها الرئيسي في المنطقة الذي دعمته طوال السنوات الماضية في ظل هذه الظروف ، أما تركيا التي كانت الممر الأساسي للمتطرفين الأجانب الذي جاؤوا من كل أنحاء العالم وأشرفت المخابرات التركية على نقلهم الى داخل العمق السوري بحجة الاشتراك في الثورة!! وللاستفادة منهم لاحقا” في الضغط على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المقرب من حزب العمال الكردستاني المتمرد على أنقرة وحليف نظام الاسد اذا ماقرر المضي قدما في تجربة الحكم الذاتي لمناطق غرب كردستان وهو ما سيؤثر سلبا” على محادثات السلام التركية الكردية المتعثرة فتبدوا هي الأخرى متذمرة من التدخل الدولي الذي جاء ليفسد أحلام أردوغان باستعادة الأرث العثماني واخراج زمام المبادرة من بين يدي الأتراك لمصلحة الولايات المتحدة خصوصا في الملفين العراقي والسوري وأن تم التمويه على ذلك بحجة موظفي القنصلية التركية في الموصل المختطفين من قبل داعش منذ يونيو الماضي والذين تم الافراج عنهم في صفقة مريبة يجهل فيها المقابل الذي حصلت عليه داعش ، وأخيرا” وليس أخرا” فأن قطر التي سعت مرارا” وتكرارا” الى نفي دعمها وتمويلها للجماعات المتشددة رغم ان صلاتها مع جبهة النصرة (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) وحركة طالبان الأفغانية (حليف تنظيم القاعدة) والجماعات المتطرفة الليبية مثل (فجر ليبيا وأنصار الشريعة) باتت مكشوفة للجميع تبدو في حالة تشكيك غير معلن من جدوى هذا التدخل الذي سيكون عاملا” اضافيا” لتقليص نفوذها المتراجع أصلا” وسيحرمها من الاستمرار بالدور التخريبي الذي تضطلع به منذ اندلاع انتفاضات الربيع العربي عام 2011 تحت ستار دعم حقوق وحريات الشعوب المضطهدة تلك الحقوق والحريات التي ساندت الدوحة
العراقيين والسوريين والمصريين والليبيين واليمنيين والتونسيين لنيلها في الوقت الذي يفتقدها المواطن القطري ذاته!!! ومن هنا نجد ان التدخل الدولي رغم مخاطره على المنطقة بأسرها لكن له مايميزه وهو حرمان جهات أقليمية متعددة من تنفيذ أجنداتها الطائفية والسياسية بحجة محاربة الارهاب من خلال الاستمرار بتمويل وتسليح وتدريب جماعات مسلحة فتحت أبواب الجحيم الطائفي على المنطقة فمنهم من كان يريد تصفية حسابات تاريخية مع السنة بحجة التصدي لداعش والأخر كان يرغب بأستمرار المذابح ضد الشيعة خصوصا” في العراق بحجة التصدي للنفوذ الايراني !!!
ان الوطنية شأنها شأن الشرف لايمكن أن تجزء أو تقبل القسمة على 2 وان سيادة العراق تعني أن يكون القرار السياسي يتخذ وينفذ في بغداد وهو أمرا نفتقده منذ العام 2003 فالعراق غدا مرتعا” لكافة التدخلات الدولية والأقليمية المتصارعة فيما بينها على الأراضي العراقية وبدماء وأموال عراقية وهو أمر نحتاج لمواجهته من خلال فكرة وطنية جامعة جديدة يمكن بلورتها مع الزمن فالدولة العراقية الأولى التي تم تأسيسها بريطانيا” عام 1921 تمكنت تدريجيا” من فك ارتباطها ببريطانيا بدءا” من عام 1932 عندما نالت استقلالها من الانتداب البريطاني وأنضمت الى عصبة الأمم وكانت من أوائل الدول العربية في هذا المجال ومرورا” بثورة مايس عام 1941 التي كانت بمثابة انذار شديد للنفوذ البريطاني في العراق وانتهاءا” بالانسحاب من حلف بغداد وسقوط النظام الملكي عموما عقب ثورة 14 تموز 1958 وهو مايوضح لنا أننا بحاجة لمزيد من الوقت قبل التخلص تدريجيا” من فكي الكماشة الامريكي والايراني . ولكننا في الوقت الراهن بحاجة للدعم الدولي لانهاء سيطرة داعش على الأراضي المحتلة والاستفادة من الفرصة التاريخية التي تلاقت فيها المصالح الدولية والأقليمية المختلفة لانهاء وجود هذا التنظيم الذي بات يشكل خطرا” حقيقيا” على وحدة الأراضي العراقية بعد اعلانه مايسمىى (بالخلافة الاسلامية) وهو أمر يتطلب أن يكون أبناء المناطق المحتلة في الخط الأول للمواجهة المرتقبة ناهيك عن ضرورة ضرب التنظيم في سوريا حيث معقله الرئيسي بعد دعم العشائر وفصائل الجيش الحر هناك مع التأكيد على ايجاد حل سياسي للأزمة السورية، كما لابد أن تقتصر العمليات العسكرية على القصف الجوي فقط فوجود عسكري أمريكي على الأراضي العراقية سيعقد الأمور أكثر ويثير مشاكل أكبر لسنا بحاجة لها في هذا الوقت تحديدا” مع المضي قدما” بأجراءات المصالحة الوطنية الشاملة واعادة بناء القوات الأمنية وتوسيع اللامركزية الادارية وحصر السلاح بيد الدولة وهي أمور اذا ماتم تطبيقها فتعني عمليا توجيه ضربة قوية للطائفية ومروجيها والمتاجرين بها على طريق انقاذ العراق وهو مايضمن للحكومة الجديدة الموازنة الدقيقة والناجحة بين الاستفادة من الدعم الدولي لمكافحة الارهاب وبين الحفاظ على أسس السيادة الوطنية التي لا يمكن التفريط بها مهما كانت المبررات.