من المعروف ان العدالة الصماء تغلق قنوات الفهم بينها وبين مكونات الشعب وتخلق ضيق الصدر الذي يخلق بدوره البطش , وتصنع جدارآ منيعآ أمام توحيد الصف الوطني الذي بلغ به العراق الى مستوى العداء والمواجهة بين إرادتين ; إرادة الحكومة بموجب الدستور المتمثلة بأذرعها الأمنية المختلفة وبين إرادة المحتجين السلمية المتمثلة بالأهواء والميول والشهوات التي تبحث عمن يحتويها في حدود القانون ومتطلبات الحياة .
أما في حالة المواجهة بالعنف كما هو الحال في ساحة التحرير والفردوس , فذلك يعني أن الحكومة قد بلغت مستوى من الوعي لايرقى الى السيطرة على إرادة المحتجين ولا على إرادة المتمردين , وهذا يوعز الى ; إما أن الظروف الصعبة التي تمر بها الحكومة قد صُنعت وخضعت الى قوة خارجية فوق همم رجالها , وإما أن العملية السياسية برمتها قد أغمضت طرفها منذ 2003 عن عيوبها وأخطائها وأفحشت في بعض مواقفها حتى وصل بها الحال الى ماوصلت عليه من ميراث في حقبة السيد الكاظمي .
وهذا الأمر لاشك تدركه الحكومة نفسها التي يراها المحتجون منذ ذلك الأمد , جامدة الحس وفاترة العاطفة إزاء مطالبهم وشهدائهم الذين سقطوا في ساحات الإحتجاج في كل مرة , ولا تأسى أحيانآ لمأساة عوائلهم تحت تلك الظروف , على الرغم من عهدها أمام الملأ بحماية المحتجين ضد كل مايتعلق بالوسائل التي ترهبهم . وهذا ربما يكشف بوجه عام عن صراع , بحسب رأي المراقبين , تلتذ به أي حكومة بالعالم لتشتغل عليه وتمضي بعزمها الى مشاريعها الأخرى خلف كواليس صراع الإحتجاجات وهي عديدة ,
الى ان يختل الوقت بالمحتجين ويغلب عليهم طابع عدم إتقان اللعبة السياسية لكي ينالوا سخط الشعب , وهذا امر تعجز عن تحقيقه الحكومات بسبب الشك الذي زرعته بشكل متعاقب في قلوبهم وظهرت آثاره في المظاهرات التي عبروا بها عن خوالجهم في ساحات كثر بها الكارهون والأنتهازيون والمتمردون سواء من الدولة أو من أطراف معادية أخرى مجهولة .
ومما امتازت به الحكومات السابقة في كل حادثة قتل يتعرض لها المحتجون هو الضرورة الى الذهاب للتهدئة التي بدت وكأنها مبطنة بطلب الإستغفار من الشعب لأخطائها وعيوبها من خلال وعود منح البعض فرصة الترشيح للإنتخابات ليمضي الى وجهته , وعهود بإلقاء القبض على الجناة الحقيقيين الذين شكلوا إرادة مسلحة ثالثة أسماها البعض ب ” الطرف الثالث ” , بينما هي في حقيقة الأمر فئة تشبهت بجماعة الدونمة التي أظهرت إسلامها وأبطنت يهوديتها , فهؤلاء يظهرون في كل ساحة برجالهم وسياراتهم أمام المحتجين على أنهم مع الدولة ولكنهم ضدها وضد الشعب .
أما الحكومة فقد طمست رأسها عن رؤية الطرف الثالث والمحتجين معآ وتريّثت بالأستعانة بمشاريع وخطط إقتصادية والإنفتاح العقيم مع دول العالم لإشغال الشعب وإمتصاص نقمة الناقمين عن قضية تقديم القتلة للمحاكمة كما بدا ذلك للمراقبين .
هذه الإرادة الثالثة , هي إرادة مطامع وإستئثار بالسلطة وهدم لهيبة الدولة بأهواء وميول غير مشروعة من ناحية القانون , تبنتها فئة متمردة ومأجورة ومطبوعة على الإجرام وناقمة على حركة الإصلاح التي تقودها حكومة السيد الكاظمي . هذه الفئة لا تهزّها العوائل الباكية على أبنائها الشهداء ولا تخلف البلاد وسوء أحوال الإقتصادية , وهي من ناحية أخرى إرادة تمهّد السبيل الى الإرهاب والإبقاء على نقص السيادة الوطنية ,
لأنها لا تستطيع أن تفلت من قيود القوى الخارجية والداخلية المستفيدة من خراب العراق لتقف الى جانب شعبها وتتعلم من التأريخ وتقلّب الدهر أن من يرفع يده على أفراد الشعب بحجر أو سوط أو هراوة أو بالسلاح فإنه لا محالة يدفع ثمن ذلك مهما كان لون شاربه وألِفَ أصحابه قتل أحرار العراق ولو بعد حين .
ولإحتواء حركة المحتجين وإخماد جمرة المتمردين الجفاة الغلاظ , لتعيد الحكومة هيبتها أمام الشعب ولا تكون في نزاعها مع المحتجين بسبب سياستها مضربآ للأمثال وتطاول العدو عليهما , كما فعل أردوغان في حكاية ” كادهان ” التي أشار بها على أسباب خراب بغداد وسقوطها على يد المغول التتر , ونسي أنه هو نفسه أستغل الخلافات في بغداد ليتدخل في شمال العراق ليكون الظالم الأخير الذي جاء ليأخذ مراده من صراع الإرادات لكنه أظهر نفسه على خلاف قول الحق : ” أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ” (البقرة) .
لإحتواء ذلك من قبل الحكومة وإنقاذ البلاد , ينبغي أولآ ; ان لا يكون النزاع في العراق بمثابة المطرقة الثابتة في بابه يطرقها السفاء بالليل والشعب نائم وفي النهار والجيش غير صارم , ليسرق مايشاء ويبني مايشاء ويقتل مايشاء . ثانيآ ; إحياء الدعوة الى الحوار الوطني بلا مداهنة بين القوى السياسية والمكاشفة بصدر مفتوح ونزوع الى الوطن والتذكير بنعمته التي لولاها ماإرتقوا الى هذه المقامات , لمحاصرة حصون المتمردين وكشف الطرف الثالث إن وجد وأن يستبشروا جميعآ ولايخافوا إلا بأس الله , وهذا هو الذي يضع الحد بين المتمردين مهما كانوا وبين من يصنع البداية للحياة الجديدة .
ثالثآ ; عدم إحجام الحكومة عن قتلة الناشطين والمحتجين والتفريط بدمائهم بإعتبارها مسؤولة أمام الله والشعب بتوفير وسائل الأمن والرخاء للجميع وأن تقطع أمرها بالقبض على الجناة الذين دارت عليهم الشبهات وإن كانوا من المسؤولين بالدولة أو المغمورين بالإستشارة مع القوى السياسية الفاعلة بالحكومة تحت غطاء الدستور ومعهم فقهاء القانون والأخذ بآرائهم والعمل بنصائحهم .
أما أن تبدو الحكومة أمام الملأ وكأنها قررت على التعاهد بالرضا لمايجري بالبلاد بل وأعرضت عن تنفيذ الحوار الوطني المكشوف بالحقائق وعما كان من ذنوب المتمردين , فهذا هو التراجع بعينه والخيبة التي تدفع الى تجديد نوبات الأحتجاج والقتل وتشجيع للتمرد ودعوة للإرهاب وتقليص لنفوذ الحكومة وخيانة للشعب وإستلاب لسيادة الوطن كما يراها المراقبون ومحتجو الساحات .
25 مايس 21