الواق واق هي مَجموعة جُزر ذكرت في كتب التراث العَربية القديمة، ليسَ هُنالك دليل حَتى الآن على ما إذا كانت حَقيقية أم خَيالية، لكنّها باتت مَثالاً لكل ما هو غريب وخيالي مِن أمور وأحداث في الثقافة الشَعبية العَربية. طبعاً هذا الكلام كان صَحيحاً حتى الأمس، أما الآن فهذه البلاد حقيقة على أرض الواقع تتجَسّد في العراق بكل مَعنى الكلمة، فكل ما يَحدث اليوم بهذا البلد غير طبيعي غريب ويَفوق الخيال. إن مُجرد النظر لوجوه ساسة العراق الجديد وتصَرّفاتهم يُشعِرُنا بأننا في بلاد الواق واق، حال العراقيين وواقعهم يُشعِرُنا أننا في بلاد الواق واق، السَير في شَوارع العراق وأزقته ومُدُنِه يُشعِرُنا أننا في بلاد الواق واق، ووجود شخص كالمالكي على سدّة الحُكم في العراق يَجعَله بلاد الواق واق. بَلد عَجيب ليسَ كباقي بُلدان الخلق مُنذ خَلق الله الأرض، وعلى مَدى تأريخه الطويل لم يَحظى سِوى بفترات مَحدودة مِن الإستِقرار،فما بَين مَوقع جُغرافي كارثي وَسط دُول طامِعة بأرضِه وخَيراتِه، ونُخب سياسية مُشوّهة بطائفيّتِها وتبَعيّتِها وجَشَعِها، ومُجتمَع مُتناقِض سَلبي، كتِب على العراق أن يَتواجَد ويَستمِر.
لقد كان وَضعُ العراق وشَعبه على الدَوام نَشازاً بَين باقي الدول، وهو للآن كذلك مُقارنة مَع دُول وشُعوب تصَنّف بأنها قريبة مِنه إجتماعياً وثقافياً وتنموياً. فبَعد سُقوط الأنظِمة التي حَكمَت أغلب الدول العربية ومِنها العراق لعُقود ومَجيء صَناديق الإقتراع بأنظِمة إسلاموية جاهِلة مُتخلفة لهذه الدول، تحَرّكت أغلب الشعوب العربية وإنتفضَت لكنس قوى الإسلام السياسي ليسَ مِن السُلطة فحَسب بل وحَتى مِن المُجتمع كما حَصل بمصر مَثلاً. فالتونِسيون تظاهَروا ضِد حِزب النهَضة وحُكومَتِه لأنها لم تلتزم بما وعَدَت به شَعبَها، ولأنها رَغم إدعائها المُحافظة على شَكل الدولة المَدني أثناء كِتابة الدستور، بَدأت تضغط بشَكل غَير مُباشِر باتّجاه أسلمة المُجتمَع والتضييق على حُرّياته الفردية والعامّة في مُقابل السَماح بحُرية الحَركة والنشاط للأحزاب السَلفية وعِصابات القاعدة التكفيرية، وهو ما لم يُعجب التونسيين فخَرَجوا مُعَبّرين عَن رَفضِهم بطُرُق حضارية كالتظاهر والعِصيان، وهو ما أجبَر الحكومة على الإستقالة بفِعل ضَغط الجَماهير ودَفعَها الى الإستجابة لبَعض المَطالب الشعبية، ولا زال حَراك الشَعب التونسي مُستمِراً. أما في مَصر وبَعد أشهُر مَعدودة على انتِخابه رَئيساً للجًمهورية، كشِّر مُرسي عَن أنيابه بالإعلان الدستوري الذي نصّبَه حاكِماً بأمر الله، لكِن المَصريين لم يَسكتوا وخرَجوا دِفاعاً عَن مُؤسّساتهم وهويتهم التي سَعى الأخوان لمَسخَها، ورَغم تعَنّت مرسي وإصراره وخلفه الأخوان على مَوقفه، إلا إنّهُم لم يَمِلّوا أو يَكِلّو بل زادوا مِن حِدّة تظاهُراتِهِم، وَشَكلوا جَبهة إنقاذ تتحَدّث بإسمِهِم وإنضَم اليهُم القضاء والنقابات، كما قدّم أغلب مُستشاري مُرسي وبَعض وزراء حُكومَتِه إستقالاتِهم، حَتى جاء اليوم الذي فاجَأ به المَصريون العالم بخروجهم بالملايين الى شوارع مصر مُطالبين مُرسي بالتنحي وكان لهُم ذلك، وقاموا بكنس الأخوان وصَنفوهم كمُنظمة إرهابية، وبَدأوا بمُحاسَبتهم على ما إقترفوه تجاه مصر وشَعبها خلال فترة حُكمِهم السوداء. أما العراقيون الذين تحكمُهم أحزاب الإسلام السياسي مُنذ عقد تقريباً فهُم في سُبات، وتحَركاتهم تجاهَها خَجولة لا تقارن بحَجم الخَراب والدمار الذي أحدَثه ويُحدثه وجودَها بالسُلطة، بَل إن نسبة كبيرة مِنهم منبطحة لها ومتواطئة مَعها وأعادت إنتاج ساستها الفاشلين لدورتين إنتخابيّتين سابقتين، وتشير الإستطلاعات الأولية لنتائج الإنتخابات الأخيرة الى تقدم مَلحوظ للحِزب الحاكم وساسته السُراق القتلة الذين يَحكمون البلد منذ 8 سنوات، وهو ما سَيُشجّعه للإصرار بالبقاء في السُلطة لأربَع سَنوات عِجاف قادمة، سَيكون رَد فعل الشارع العراقي تجاهَها وكالعادة سلبيا وخجولاً، وهو مايؤشّر لوجود إشكالية مُعقدة بتركيبة المُجتمع العراقي. سَواء بعَوامه وبُسطائه، الذين يَبدوا بأنهم قد ألِفوا العُبودية، وأعادوا إنتخاب سارقيهم وجَلاديهم مَع سَبق إصرار وترَصّد، وشَرعَنوا بذلك إستمرارهُم بسَرقة وتخريب بلادهم وإمتهان كرامتهم لأسباب نفعية أو طائفية. أو بمُثقفيه وطبَقته الوسطى، الذين عُرفوا بسَلبيتهم التي عَبّرت عَن نفسها بشَكل واضِح مِن خلال مُشاركتِهم الخَجولة، وإمتِناع النسبة الأكبر مِنهم عَن التصويت، مُساهِمين بذلك في زيادة فرصة الأحزاب الظلامية وساستها الفاسدين بالفوز، ووقوفهم بالتالي مَوقف المُتفرج على الخَراب الحاصِل، بدَل مُشاركتهم بمُحاولة تقليله ولانقول وقفه، حينَما سَنحَت لهم الفرصة لفِعل ذلك.
بَعد كل هذا، اليسَ حال العراق وشعبه هو العَجَب العُجاب؟
فالنُخبة السِياسية التي تحكم العراق أسوء وأبشَع مِن التي تحكم تونس ومَصر بمِئات المَرّات، ويُعاني شَعبه مِن شَظَف العَيش أضعاف ما يُعانيه التونسيون والمَصريون، وقد كشَفَت هذا النخبة الفاسِدة عَن طَبيعَتها البَشِعة مُنذ الايام الأولى لتواجُدِها في السُلطة حين ساهَمَت مَع المُحتل بتدمير مُؤسّسات الدَولة وأعادَت تشكيلها على أسُس طائفية عِرقية مَقيتة، ولم تتمَكن خلال عَقد مِن وجودها بالسُلطة بتوفير الحَد الأدنى مِن الخَدَمات لشَعبها، إضافة لفَسادها الذي يُزكمِ الأنوف والذي تفوح عُفونته مِن كل زاوية مِن زوايا الدَولة، فماذا فعَل العراقيون؟ لم يُحَرّكوا ساكِناً ولن يَفعَلوا باستثناء مَجموعة مُثقفين ومُنظمّات مُجتمَع مَدَني بعَدَد أصابع اليَد تتظاهر مِن وقت لآخر، أما الغالبية فترِكتهُم يَتنعّمون بأموال البلاد وَباتَ الكثيرون مِنها إمعات لهُم بَعد أن ساقوهُم لقتل بَعضِهم على الهَوية المَذهبية وأنسوهُم أنهُم جَميعاً عِراقيين يَعيشون مَعاً مُنذ آلاف السِنين، والأدهى والأمَر كما ذكرنا سابقاً هو أنّهُم يُعيدون إنتخابَهم بكل دَورة أنتخابية وهي للآن ثلاثة بَدَل التَخلص مِنهُم ورَميهم لمَزبلة التأريخ. أما النخبة الحاكِمة فهيَ لا تُحَرّك ساكِناً لأن مَن أمِن العِقاب أساءَ الأدَب، ولأن لا وجود لمَن يُعاقبَها فهيَ مُستمِرة بموبقاتِها دون حَياء أو خَجَل، فهي مِن عَيّنة إذا لم تَستحي فأفعَل ما شأت، لذا لم نرَ يوماً رَئيس حُكومة أو وزير أو وَكيل أو حتى مُدير يَستقيل مِن مَنصِبه رَغم أنّهُم لم يَبنوا مدرسة أو مُستوصَفاً أو مُجَمّعاً سَكنياً، أو يُبَلطوا شارعاً، أو يوَفروا أمناً أو ماءً أو كهرباءً أو مَجاري أو وقود أو بُنى تحتيّة أو فرَص عَمَل، ورَغم أن بَلدهُم يَتصَدّر دول العالم بالفساد والفقر والأرامِل والأيتام، وهو البَلد العائِم على بَحر مِن الخَيرات!
ألا يَطرح هذا الأمر كثيراً مِن التساؤلات حَول السَبَب بهذا الأختلاف بَين الشعب العراقي وباقي الشُعوب! وحَول السَبَب في سِلبيّته! علماً بأنه يدّعي العَظَمة والإباء في الوقت الذي يَرضى بما لا يَرضى به أي إنسان أو كائن على وَجه الأرض!!
يَقول البَعض أن الحُكام هُم السَبَب، وهو برأيي سَبَب واه يُردِّده مَن جُبلوا على تَرديده لأنه يُوافق أدَبيّات رُؤاهم الآيديولوجية، التي لا تُخَطّأ الشُعوب وتُبَرّأها مِن كل عَيب، وتعَوّدت أن تَرمي اللائِمة على الانظِمة والحُكام. فحُكام العراق لم يَكونوا أسوَء مِن أقرانِهم في باقي الدول العَربية بل إن بَعضَهم كان أفضل، على العَكس وبالمُقابل كانت مُمارَسات عَوام ورُعاع المُجتمَع العراقي أسوَء مِن مَثيلاتها في باقي دول العالم في الكثير مِن المَحَطّات التأريخية التي مَرّت على تأريخ العراق الحَديث كفرهود اليَهود، وقتل وسَحِل وتقطيع جُثث ضَحايا انقلاب14تموز وحَرقِها وتعليقها، وتهجير الكُورد الفيليين وسَرقة مُمتلكاتهم، وغزو الكويت وإستباحَتِها وما تبعَه مِن قتل وسَرقة وإعتِداء على مُمتلكات الناس وأعراضِهم، وأخيراً وبالتأكيد ليسَ آخراً القتل على الهَوية بَين الجار وجاره والصَديق وصَديقه عام 2006، لذا (خلي الطَبَق مَستور) وكفانا تنظير فارغ، ولنُشَخِّص السَبَب الحَقيقي بلا مُجامَلة ومُوارَبة ومُحاباة. فالسَبَب الحَقيقي يَكمُن بتلك الخَلطة النَشاز الغَير المُتجانِسة التي تتحَكم بالمُجتمَع العراقي وترسُم تركيبَته، خَلطة تجمَع بَين مُؤسّسات دينية تكتُم أنفاس وعقول العراقيين وتُرَكّب وتصوغ أفكارهُم وفق مَصالِحَها، وبَين بَداوة تُشكل عاملاً مُهمّا بتركيبة المُجتمَع العِراقي وتتَحَكم بتَصَرّفات أفرادِه، وهي خَلطة أنتَجَت شَخصِيّة غَريبة، سِلبية بمَواقفِها، مُتطرّفة بأحاسيسِها وإنفعالاتِها ومُتناقِضة بمَشاعِرها وأفعالِها، إبتُليَت بها أرضُ العراق المِسكين.
[email protected]