اندلاع الأزمة السياسية الأخيرة في العراق بعد الانسحاب الأمريكي ينذر بانفجار صراع كبير في العراق من شأنه آن يعزز النفوذ الايراني أكثر من أي وقت مضى.
هذا المقال يقدم تشريحا دقيقا للأزمة وأسبابها الحقيقية التي تكمن في الراعي الأمريكي الذي فرض على المعارضة العراقية قبل سقوط نظام صدام حسين نظام المحاصصة الطائفية، وأشرك البعثيين في العملية السياسية رغم أنهم لايؤمنون بها، وهم أي البعثيون، يحاولون إظهار ان اجتثاث البعث يساوي اجتثاث السُنّة.
بات من الصعب التفكيك بين مفردات أصبحت جزءاً من الحياة العراقية وهي السنة والشيعة ومكونات الشعب العراقي وكل مفردة دخلت العراق الجديد واتفق عليها في مؤتمر المعارضة العراقية في لندن الذي عقد منتصف ديسمبر 2002 برعاية السفير الأمريكي زلماي خليل زادة.
وماعاد سهلا وفق نظام المحاصصة الذي فرضه زلماي على العراقيين في لندن، أن يتم التفكيك أيضاً بين قضايا تشغل بال العراقيين فيما يتعلق بالأمن وكيفية بسط الاستقرار ومحاربة الارهاب.
ويمكن القول بثقة بالغة بعد فشل الأطراف الرئيسة في معادلة الحكم الجديد( الشيعة والأكراد وباقي مكونات المحاصصة الطائفية ) في ايجاد نموذج مقبول من قبل المحتل الأمريكي ومن دول إقليمية مؤثرة، فان القبول بمشاركة بعثيين سابقين تم اجتثاثهم، في السلطة والبرلمان، شكل أكبر خطأ استراتيجي يتحمل وزره المواطنون العراقيون ولايعرفون كيف يتخلصون منه.
وبسبب بروز حمى ” الطائفية” والقتل على الهوية الذي شارك فيه البعثيون بقوة من خلال اختراق تنظيمات اسلامية كالقاعدة وحتى الحزب الاسلامي وغيرهما، وايجاد البعثيين منظمات ” اسلامية ” مقاتلة، أصبح صعبا جداً التفريق بين ماهو بعثي وسني ، حيث أن البعث أخذ يروج له بقوة من خلال شخصيات فرضت على العملية السياسية، أو دخلتها لتنسفها، انتقاما لسقوط نظام صدام حسين.
ولو كان الأمر هو مشاركة السنة في الحكم الجديد في العراق ، لكان بالامكان الاستعانة بشخصيات سنية لم تكن في يوم من الايام مع نظام صدام فضلا عن أنها لم تنتم لحزب البعث ، بل وعانت كثيرا في النظام السابق لأنها لم تكن بعثية، بدلا من مصافحة من يعلن دون استحياء انتماءه لحزب البعث، ولم يخف يوما دفاعه عن النظام السابق وحتى عن رئيسه صدام.
وصار من البديهيات قبل خروج الاحتلال ( غير النهائي لأن معظم القوات الأمريكية استقر في قاعدة عسكرية في الكويت المجاورة) ، أن اندلاع أزمات بين المتصارعين على السلطة، لن يستمر طويلا بعد تدخل الراعي الأمريكي كما كان يحدث في عهد زلماي خليل زادة ومن سبقه ومن جاء بعده.
حتى في الأزمة الأخيرة ، بعد اتهام القضاء العراقي الذي أقسم أمامه جميع المشاركين في الحكم ، نائب الرئيس طارق الهاشمي بالتحريض على عمليات قتل وارهاب منها التخطيط لقتل رئيس الوزراء نوري المالكي، وهي بالمناسبة قضية تمتد الى نحو ثلاث سنوات، فان الراعي الأمريكي هو من كان دفع يومذاك الى أو فرض التهدئة ، والأكثر من ذلك ان الراعي الأمريكي أيضاً تجاهل و” لفلف ” قضية مشابه. جرّت للثانية وهي اغتيال أبناء السياسي السني مثال الآلوسي زعيم حزب الامة العراقي، واتهام وزير الثقافة آنذاك أسعد الهاشمي(ابن شقيقة طارق الهاشمي) وابن النائب السابق عدنان الدليمي بها وبغيرها من عمليات قتل لم تكشف تفاصيلها وتمت التغطية عليها برغم أن طارق الهاشمي اتُهم أيضاً حينها بتهريب ابن شقيقته أسعد الهاشمي الى الخارج.
شيلني وأشيلك!
مايسمونها حكومة شراكة وطنية أو وفاق سياسي ، ليست قائمة في العراق الا “على قاعدة شيلني وأشيلك” ، وغض الطرف عن كل مايعتبر في السياسة من المحرمات خاصة فيما طرح من ” اجتثاث البعث” ، اذا كانت النتيجة أن يصبح المالكي رئيسا للوزراء ويُجلس الى جانبه ألد أعدائه الفكريين والسياسيين نائبا له لشؤون الخدمات ” صالح المطلك” برغم كل ماقيل عن ماضيه البعثي، وكذا الحال مع طارق الهاشمي وظافر العاني الذي يدافع علنا عن منظمة مجاهدي خلق الايرانية ، ويشارك في اجتماعاتها مع أنها مدرجة أمريكيا ولدى الاتحاد الأوروبي،في قائمة المنظمات الارهابية، ومافعلته من جرائم ضد الشعب العراقي في ظل تعاونها مع نظام صدام.
وليس هذا وحسب فان قاعدة ” شيلني وأشيلك” غضت الطرف عن دخول بعثيين مخلصين لصدام في لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب، ونجح بموجبها طارق الهاشمي في تعيين المئات منهم في المواقع الأمنية والعسكرية الحساسة كما كشفت وثائق مراسلاته الرسمية مع وزارتي الدفاع والداخلية.
وتحت ذريعة عجز القائمة الفائزة في الانتخابات التشريعية الأخيرة عن تشكيل حكومة لوحدها، لجأ الجميع الى تحالفات لتكوين أغلبية برلمانية وتشكيل حكومة وفاق سياسي تجاوزت الدستور الى ماأصبح يعرف باتفاق أربيل الذي تجاوز ” اجتثاث ” البعثيين من مفاصل الدولة ورفضَ دخولهم قبة البرلمان، ووفر بذلك غطاء لعودة البعثيين مجددا الى النظام بأشكال مختلفة، وصار القاتل في النظام السابق ومن شارك في جرِّ العشرات الى حبال المشانق وساحات الاعدام ، شريكا في السلطة وبات صوته أعلى بكثير من صوت المالكي المتهم هو أيضاً بتصفية خصومه من المناضلين السابقين، حيث اتهم النائب الاسلامي صباح الساعدي “رئيس الوزراء نوري المالكي بأنه ينتهج نفس نهج صدام حسين من خلال التهديد بالقتل واكبر دليل على ذلك ما حدث لهادي المهدي”، مضيفا أن “مصيرنا سيكون نفس مصير المهدي” الصحافي الذي قتل بكاتم صوت بسبب دعواته للتظاهر السلمي ضد الفساد. كما يؤخذ على المالكي الاستعانة بجيش من المستشارين يخلقون له الأعداء، ويحولونه الى ” ديكتاتور” حتى قبل أن يتهمه بذلك أيضانائبه صالح المطلك على شاشات الفضائيات.
ومن هنا فان هذه الأزمة تكشف عن عناصر الضعف والخلل الجديين في العملية السياسية، وفي مسيرة إعادة بناء مؤسسات الدولة، وفي الآليات الدستورية التي تحكم عمل السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهي انعكاس وتجسيد ملموس لأزمة في نظام الحكم نفسه، الذي أفرزته العملية السياسية في ظل غياب السيادة الوطنية في ضوء هيمنة قرارات من الخارج، وبالتالي الحاجة المستمرة الى الراعي الأمريكي.
حكومة أغلبية!
وبعد ما جرى مؤخرا من تفجيرات، هي السمة البارزة لكل حالة انسداد سياسي، ماعاد الشارع العراقي يرضى بان يظل ائتلاف العراقية بقيادة اياد علاوي يعطل باستمرار عمل البرلمان والسلطة التنفيذية كلما حصلت أزمة،ومحاولات نواب فيها إعادة عقارب الساعة الى ماقبل التاسع من أبريل / نيسان 2003.
وآطلقت دعوات في الشارع الى التخلي عن حكومة وحدة وطنية، تلقفها المالكي ولوح من جهته بحكومة أغلبية وسط دعوات من جهات متورطة في كل مايجري، للتهدئة واغلاق ملف الجرائم والارهاب أو تأجيل الحسم فيه الى حين مايعني أن أزمة الثقة المفضية الى أزمة الأمن المفقود، ستظل مستمرة.
وحتى مع تشكيل حكومة أغلبية وهي مجرد تهديد من المالكي لن يفعله لأنه محكوم بعدة إرادات عليه إرضاءها، فيجب أن لايحصل أي تفريط باستقلال القضاء ،والفصل بين الجانبين الجنائي والقضائي في قضية الهاشمي عن بعدها السياسي ، وبين الجانب الاداري وبعدها السياسي أيضاً في قضية صالح المطلك وطلب رئيس الوزراء تغييره.
ويحق للمالكي إن كان صادقا في دعواه حول صالح المطلك وفشله في أداء عمله أن يرفض بالمطلق حكومة توافق سياسي ، ويعود الى المحكمة الاتحادية لحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة بدلا من اللجوء الى البرلمان المحكوم أصلا بقاعدة التوافق لا بالاختيار الحر، والذي سيبقي رأسه تحت مقصلة التوافق.
ويمكن القول بالفعل إن اعتماد نظام المحاصصة ، أدى الى الفشل الكامل في عمل الوزارات، وضعف الانسجام داخلها، وصعوبة بلورة الرؤى المشتركة واتخاذ القرارات، وضعف الأداء العام، وظهور مراكز قوى مختلفة، وخلق بيئة مؤاتية لانتشار الفساد المالي والإداري وانتهاك مبدأ المواطنة وتساوي المواطنين في الحقوق .
ومع الانسحاب الأميركي، أخذ القلق يتصاعد في المجتمع العراقي مع استمرار الفراغ السياسي والأمني حيث الوزارات الأمنية الدفاع والداخلية والأمن الوطني بلا وزير ، شهدت الأوضاع الاقتصادية تردياً واضحاً، وتحول الاستياء الشعبي إلى غضب لدى الكثيرين، ووجد هذا تعبيره في حركات احتجاجية متنوعة،دفعت منذ وقت غير قريب، بالكثير من الناشطين الى اطلاق دعوات لاسقاط العملية السياسية القائمة على نظام المحاصصة عبر المظاهرات السلمية ، وتكثيفها في ساحة التحرير ببغداد برغم كل القمع الذي مارسته الحكومة مع سابقاتها، وقتل مهدي الهادي.
وخصصت صفحات على الفيس بوك دعت الى التحضير الجيد لهكذا مظاهرات واعتصامات سلمية، واجبار وسائل الاعلام الغربية على تغطيتها لكي تفكر واشنطن وحليفاتها التي شاركتها في عملية اسقاط نظام صدام ، بتغيير النظام السياسي الراهن بعيدا عن المحاصصة، المؤدي بالضرورة الى الانزلاق الى حرب طائفية كلما دخلت البلاد الى نفق أزمة سياسية جديدة.
وشملت هذه الاحتجاجات بغداد والعديد من المحافظات، ولم تبد القوى السياسية الغارقة في الفساد أو المستفيدة منه، استعدادا لمراجعة مواقفها، رغم مخاطر التدهور الأمني وشلل الحياة الاقتصادية وتردي الخدمات العامة.
تحذير !
ويجب التحذير أن استمرار الأزمة ومحاولة الدمج القسري بينها وبين الحديث مجددا عن اجتثاث البعث (وليس السنة) ، والمهادنة في فتح الملفات الجنائية والقضائية والادارية، لا يعمل على زعزعة ثقة المواطنين في جدوى العملية الانتخابية فحسب، بل ويشجع على إعادة الترويج للروح الانقلابية وانتهاكات للدستور بصيغة التوافق السياسي.
وربما ينجح المالكي في الانقلاب الدستوري ويصغي حساباته مع خصومه اذا أيده الأكراد وحلفاؤه والتيار الصدري، لكنه سيصطدم مجددا بعقبة المحاصصة،فهو جاء الى رئاسة الوزراء عل. هذا الأساس ولهذا لايحق له عزل نائبه الذي يمثل قائمة العراقية التي تضم بعثيين.
وليس غريبا آن نشهد اصطفافات جديدة تطيح بأحلام المالكي في تنفيذ انقلاب دستوري ، فمايقال عن مائدة مستديرة دعا لها رئيس المجلس الاسلامي الأعلى عمار الحكيم، وميثاق شرف أعلنه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، لايصبان في تخليص العراق من الارهاب الذي يقف خلف معظمه البعثيون(وبينهم سابقون) بقدر مايطيحان أيضاً بالدستور وبإمكانية بناء دولة عراقية.
بالمقابل، ستحاول الأطراف المستفيدة من العملية السياسية والمحاصصة ، أن تستثمر الاحتجاجات الشعبية والجماهيرية التي قد تندلع فجأة أو بعد حين، للدفع مجددا نحو الاتفاق مجددا على تشكيل حكومة وحدة وطنية تبقى هشة قبل تطهير العملية السياسية من أعدائها المتسللين داخلها، أو إرغام الجميع على الاعتراف بالفشل والتوجه مجدداً نحو المجهول لتبرز الحاجة مجددا الى تدخل مباشر من الراعي الأمريكي الذي حاول أن لايظهر كثيرا في الأزمة الأخيرة ، مع أنه كان موجودا واجتمع ممثلون عنه بالقائمة العراقية وبغيرها من مكونات عملية سياسية تكاد تحتضر!
إيران!
عموما فان الفوضى السياسية والامنية في العراق تزيد من التدخل الايراني في شؤون هذا البلد،إذا ربطت قسرا بالسنّة ،بالرغم من أن الاستنتاج البديهي يؤدي الى أن تفجيرات بغداد الخميس الماضي ، هي من تدبير جماعات بعثية تريد أن ترسل رسالة مفادها أن الطائفة السنية اغضبتها الاتهامات الموجهة الى نائب الرئيس طارق الهاشمي، لإثارة غضب الشيعة بما يعيد العراق الى المربع الأول والقتل خلى الهوية.
لكن ما يحدث يجب الا يكون مفاجأة لاحد لأن معظم الناس يعتقدون.. والتقييمات التي تخرج من العراق ترى ان الانسحاب الأمريكي السريع المفاجيء وعدم وجود قوات على الارض سيخلق هذا الفراغ الذي سيمتليء بهذا النوع من المشاكل التي نراها، بما يمهد لعودة جزء من القوات الأمريكية (المجاورة في الكويت) ، أو ألغى مجددا الى أوامر الراعي الأمريكي على أساس أن سحب القوات الامريكية قلص النفوذ الامريكي وأن انتشار الفوضى في العراق هو في مصلحة ايران التي تريد ان تزيد نفوذها في المنطقة.
والاستنتاج المنطقي من كل مايحدث في العراق هو إن النظام الجديد في العراق وبعد كل هذه السنين العجاف منذ العام 2003. غير مستقر ولن يستقر لأنه قام على نظام المحاصصة وأشرك فيه من يريد الانتقام لسقوط صدام عبر إفشال العملية السياسية. وان اي دعم يحصل عليه طارق الهاشمي وصالح المطلك قبل ان يحسم القضاء قضية الأول، والتوافق قضية الثاني، يعني تمهيد الطريق لتدخل ايراني واسع في العراق وفي المنطقة ، مايعني استقطابا طائفيا يجر الى فتنة خطيرة ، داخلية وإقليمية.
وإذا فُتح ملف الارهاب والقتل المتورط به طارق الهاشمي، فيجب أن لايستثني ملف قتل الصحافي هادي المهدي والمتهم به زوج بنت المالكي كما نشر موقع ” كتابات” العراقي بعد اغتيال المهدي في سبتمبر/أيلول المنصرم ،والنائب صباح الساعدي. كما يجب فتح ملف قتل السيد مجيد الخوئي المتهم به السيد مقتدى الصدر وغيرها من الملفات، منها بالطبع ماحصل من اغتيالات طالت رئيس المجلس الأعلى الأسبق محمد باقر الحكيم ورئيس مجلس الحكم عزالدين سليم ونائبه طالب الحجامي،ورئيس فرع هيئة علماء الدين السنية في البصرة الشيخ يوسف الحساني وغيرهم من دعاة التقريب بين السنة والشيعة في عراق يهدد طارق الهاشمي بأن يشهد حربا طائفية إذا أجبر على المثول أمام القضاء بعد أن كان هو شهد بنزاهته عندما تقدم بشكوى ضد زعيم حزب الامة مثال الآلوسي عن قضية ” سب وقذف” حول علاقة الهاشمي بدولة إقليمية.
فهل سنشاهد توافقا على عدم الحسم ، لتبقى النار دائما …تحت الرماد؟!
* نجاح محمد علي
رئيس تحرير الشؤون الايرانية في قناة العربية وكاتب وصحافي عراقي عارض النظام السابق وسجن وحكم عليه بالإعدام في سجون صدام لكنه نجح في الهرب وتم إعدام الكثير من أفراد اسرته،وكان من أشد المعارضين أيضا لتعاون المعارضة العراقية (آنذاك) مع واشنطن لاسقاط نظام صدام عن طريق التدخل العسكري،وتعرض بذلك لحملات دعت الى تصفيته جسديا.
[email protected]