19 ديسمبر، 2024 2:01 ص

العراق بعد داعش … ثلاثة مشاكل كبيرة

العراق بعد داعش … ثلاثة مشاكل كبيرة

في وقت تقدمت فيه جهود العراق لطرد داعش من الموصل بشكل أفضل من المتوقع، فإنه يجب على الطبقة السياسية العراقية أن تواجه الآن المسائل المعقدة والمثيرة للانقسام التي فشلت في معالجتها لسنوات عديدة. ففي حين أن معركة تحرير كل العراق من داعش لم تنته بعد، هناك ثلاث قضايا لا تزال تمثل مصادر للتوتر: اللامركزية، وجود القوات الأجنبية في الشمال، ووضع الأراضي المتنازع عليها مثل كركوك، بين الأكراد والحكومة المركزية. وتتطابق هذه القضايا العالقة مع الرؤى المتباينة بين السنة والشيعة فيما يتعلق بمستقبل العراق.
تشكيل الأقاليم/المناطق
أولها، أن السيد أسامة النجيفي وأتباعه كانوا ولا زالوا صريحين في دعوتهم لتحقيق اللامركزية في العراق بعد داعش. ويؤكد السيد النجيفي أن كل محافظة من المحافظات الثمانية عشر يجب أن تكون قادرة على أن تصبح منطقة شبه مستقلة داخل البلاد، مثلها مثل كردستان العراق. ومن ناحية أخرى، فإن السيد نوري المالكي يعارض إنشاء المناطق فور هزيمة داعش، بحجة أن هذه المناطق “ستنشأ بالقوة” وسط توترات سياسية وعسكرية وطائفية. وحيث يعتبر السيد المالكي على نطاق واسع أنه الممثل السياسي لوحدات الحشد الشعبي التي يتزايد نفوذها السياسي بشكل يتناسب مع دورها العسكري المتنامي في دعم الجيش العراقي، فهذا يعني أن موقف المالكي يمثل موقف الحشد الشعبي الذي يعني أنه لا يحبذ اللامركزية، ويمكن أن يفرض عزمه عسكريا.
ستكون اللامركزية قضية رئيسية في مستقبل العراق، خاصة وأن التواجد المتزايد للحشد الشعبي في المناطق السنية تقليديا، وكذلك إتهامه بانتهاكات حقوق الإنسان، قد زاد من مخاوف السنة من الجهود الممكنة لفرض التغييرات الديموغرافية في أراضيها. ويأتي ذلك في الوقت الذي شكلت فيه منظمات تمثل العديد من الأقليات المضطهدة في العراق، وهي المسيحية واليزيدية والتركمانية والشبك، تحالفاً يدعو إلى إنشاء منطقة شبه مستقلة للأقليات في شمال العراق تمتد عبر سنجار وتلعفر وسهول نينوى.

القوات الأجنبية: مصدر الصراع
في حين أن التوترات بين الحكومتين العراقية والتركية حول وجود الجنود الأتراك في بعشيقة (15 كيلومترا شمال شرق الموصل) قد هبطت إلى حد كبير، فإن القضية لا تزال مشكلة كبيرة وقد تؤدي إلى نزاع مسلح. وتعتبر الحكومة العراقية ان الوجود التركى على أراضيها يعد إنتهاكاً لسيادة العراق، بينما يقول أحد قادة الحشد الشعبي بأنها جزء من “مشروع لتقسيم العراق”. ولكن في الوقت ذاته قالت تركيا، التي تقيم علاقات وثيقة مع حكومة إقليم كردستان وأسامة النجيفي، إن وجودها مصمم بشكل صارم لتدريب قوات البيشمركة الكردية والمتطوعين من حرس نينوى، القوة التي يقودها أثيل النجيفي. في حين أشارت تركيا، عضو حلف الناتو، إلى أنها ستظل موجودة عسكرياً فى العراق حتى نهاية المعركة في الموصل. قد يكون وجود أنقرة مرتبطا بقلقها بشأن إمكانية دخول مقاتلي الحشد الشعبي إلى مدينة الموصل ذات الأغلبية السنية ومدينة تلعفر التي يغلب عليها الطابع التركماني، الأمر الذي قد يؤدي إلى تغييرات ديمغرافية ليست لصالح تركيا. وفي حالة وجود تخطيط تركي للسلطة من أجل ضمان دور لحرس نينوى في شمال العراق، فمن غير المرجح أن تظل إيران ساكتة على ذلك، حيث من المرجح أن تنشأ مواجهة بين الحشد الشعبي وحرس النجيفي.
وعلاوة على ذلك، يراقب المسؤولون الأتراك عن كثب وجود وحدات المقاومة في سنجار، وهي قوة عراقية تابعة لحزب العمال الكردستاني (P.K.K.)، وهي منظمة إنفصالية تعتبر كياناً إرهابياً من قبل كل من أنقرة وواشنطن. وتخشى أنقرة من أن يكون حزب العمال الكردستاني قد يحاول إنشاء قاعدة لوجستية لتسهيل العمليات بين العراق وسوريا في منطقة سنجار الحدودية. ومما يذكر أن وحدات المقاومة في سنجار، التي هي في الغالب يزيدية في تكوينها، قد إشتبكت بالفعل مع بيشمركة روج آفا، وهي قوة كردية سورية متحالفة مع رئيس إقليم كردستان العراق السيد مسعود بارزاني المدعوم من تركيا، للسيطرة على سنجار. قد يثير هذه الإشتباك إشعال نزاع أوسع بين الأكراد المؤيدين والمعارضين لتركيا. وعلاوة على ذلك، إتهم الفريق جمال ايمينيكي، رئيس أركان وزارة البيشمركة بحكومة اقليم كوردستان قوات الحشد الشعبي بتمويل وحدات المقاومة اليزيدية في سنجار، مضيفاً أن القوة موجهة من إيران وحلفائها لفتح ممر إلى سوريا وإستكمال الهلال الشيعي من طهران إلى بيروت، علماً أن قوات الحشد الشعبي كانت قد هاجمت مواقع للبيشمركة في سنجار في كانون الثاني الماضي. وتزامنت هذه الهجمات مع تهديدات من قبل أحد قادة الحشد الشعبي، محذراً البيشمركة من “عمل عسكري سريع” في حال عدم إخلاء المناطق المحررة.

الصراع على المناطق المتنازع عليها
وفي هذا الشأن، قال رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي خلال زيارة الى كردستان العراق في شباط / فبراير الماضي أن المناطق المتنازع عليها والواقعة على الحدود بين أراضي الحكومة الفدرالية وكردستان العراق، ويعني هنا محافظة كركوك، “يجب أن تتحول إلى مناطق متفق عليها”، إلا أن القضية لا تزال دون حل وقد تتصاعد إلى صراع واسع النطاق. في حين أن حكومة إقليم كردستان، التي تدعي أن محافظة كركوك جزء من أراضيها التاريخية، تسيطر على حوالي نصف المحافظة، بما في ذلك مدينة كركوك، فضلا عن إثنين من حقول النفط الخمسة في المحافظة منذ توغل داعش عام 2014، ولا يزال النصف الآخر من المحافظة تحت سيطرة داعش، كما لا تزال الخلافات حول من سيحكم الجزء الذي يسيطر عليه داعش بشكل رسمي تعرقل تحريره.
وعلى الصعيد السياسي، قررت الحكومة العراقية إستبعاد كركوك من الانتخابات المحلية القادمة المقرر إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بسبب الوضع المتنازع عليه في المدينة. ويذكر أنه لم تجري في كركوك إنتخابات محلية منذ عام 2005 حيث إحتلت الاحزاب الكردية 26 مقعداً من أصل 41 مقعدا في مجلس محافظة كركوك، كما وعززتها بإعادة آلاف الاكراد الذين يدعون أنهم شردوا تحت سياسة ما معروف بتسمية “تعريب كركوك” إضافة لمقاطعة كبيرة من سكان كركوك العرب والتركمان. وفي حين أنها تختلف حول المسائل الكردية، تتحد الأحزاب الكردية في مطالبتها بإجراء إنتخابات في كركوك لإضفاء الشرعية على التغييرات الديمغرافية المواتية التي حدثت في المحافظة. وقد هددت السلطات الكردية فى المحافظة بمنع المشردين العرب من التصويت فى الانتخابات إذا لم يسمح للمحافظة بالمشاركة فى العملية الإنتخابية كذلك.

بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مسألة النفط في كركوك نقطة شائكة في وضع المحافظة الذي لم يتم حله بعد. فقد كانت الحكومة العراقية قد وقعت في شباط / فبراير الماضي مذكرة تفاهم مع ايران من أجل إجراء دراسة جدوى لبناء خط أنابيب بدلاً من الخط الحالي الذي يحمل النفط الى السوق الدولية عبر الاراضي الكردية وتركيا. وبديل ذلك الخط، هو خط أنابيب سيحمل النفط عبر الأراضي الإيرانية، وبالتالي يحرم حكومة إقليم كردستان من موارد مالية هامة وتركيا من نفوذها الاقتصادي على الحكومة المركزية العراقية.

وعلاوة على ذلك، فإن قوات البيشمركة تخشى من تراكم قوات الحشد الشعبي جنوب كركوك. ويشتبه قائد كردي في أن قوات الحشد الشعبي ربما تكون جاهزة للقتال ضد البيشمركة بعد هزيمة داعش. ويعتقد أن قوات الحشد الشعبي، التي أقامت تواجد قوي في الأراضي المتنازع عليها جنوب كركوك، في كل من محافظتي ديالى وصلاح الدين، خلال معركة داعش، قد أخرت عودة 14000 عائلة نازحة داخليا تقيم حاليا في كركوك إلى ديارهم في ديالى. وقد أثار ذلك قلق محافظ كركوك نجم الدين كريم الذي يعتقد ان “الحشد الشعبي قد “أصاب طائرين بحجر واحد، بالتخلص من السنة في ديالى وتعريب كركوك”.

وفي محافظة صلاح الدين، شهدت مدينة طوزخورماتو الواقعة بالقرب من الحدود الجنوبية لكركوك، وهي موطن لأعداد كبيرة من التركمان الشيعة والأكراد، شهدت إشتباكات عنيفة بين الطائفتين، التي تعتبرها حكومة إقليم كردستان جزءا من كركوك ومن ثم كردستان، في حين أن سكان المدينة التركمان المدعومين من قبل الحشد الشعبي يعتبرونها جزءا من محافظة صلاح الدين. وقد أدى القتال إلى فصل المدينة إلى أحياء كردية وتركمانية، وتفصل كل منها الآن حواجز كونكريتية.

الإنقسامات السياسية تعرقل رؤية موحدة بعد داعش
إن الانقسامات الداخلية، السياسية والإيديولوجية، داخل التحالف الوطني، منعت الاتفاق على رؤية موحدة، حيث يدافع السيد عمار الحكيم عن خطة تعرف باسم “التسوية التاريخية”. ويدعو الاقتراح إلى تسوية جميع المسائل على أساس جمعي بمساعدة بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي). ومن ناحية أخرى، أطلق السيد مقتدى الصدر خطة متنازع عليها في شباط / فبراير تدعو إلى المصالحة الاجتماعية، ودمج قوات الحشد الشعبي في القوات المسلحة العراقية، وإنهاء كل تدخل أجنبي في الشؤون العراقية، بدعم من بعثة يونامي أيضا. وقد وافق البرلمان العراقي على قانون في نوفمبر / تشرين الثاني 2016 اعتبر فيه الحشد الشعبي كهيئة مشروعة داخل الجهاز الأمني في البلاد. ومع ذلك، فإن القانون الذي عارضته بقوة بعض الفصائل السنية في البرلمان، لا يحدد الدور المستقبلي للحشد الشعبي في إطار العملية السياسية العراقية، لأن ذلك سيعتمد أساساً على الدور الذي تريد إيران أن تلعبه. ومن ناحية أخرى، يهدف السيد المالكي لإستعادة رئاسة الوزراء من خلال تحالفات تحقق له أغلبية سياسية تتألف من الحشد الشعبي فضلا عن العديد من السياسيين السنة المؤيدين له، ومن بينهم رئيس البرلمان سليم الجبوري. ويأتي ذلك في الوقت الذي كانت فيه المرجعية الدينية الشيعية، التي دعت لتشكيل الحشد الشعبي من خلال فتواها للمتطوعين ضد داعش في عام 2014، قد تراجعت إلى حد كبير من المشهد السياسي بعد دعواتها الصعبة للإصلاح التي لم تتحقق.
كما يبدو أن هناك انقساما داخل الكتلة السنية الرئيسية، وخاصة بين جناحي الجبوري والنجيفي في التحالف. ويعتقد أن هذه الاختلافات تتجلى في عملية وضع الصيغة النهائية لوثيقة تحدد الرؤية السنية لمستقبل العملية السياسية قبل تقديمها إلى الأمم المتحدة، ويبدو أن الجبوري على استعداد لاقتراح “تجميد” القضايا المثيرة للجدل، مثل تشكيل الأقاليم/المناطق وقانون الحشد الشعبي الذي تم التصديق عليه حديثاً، ولحين يتم التوصل إلى اتفاق وطني بشأنها. ولكن يبدو أن النجيفي مصراً على مطالبة الحكومة المركزية بتنفيذ تدابير بناء الثقة لتهدئة المخاوف السنية بشأن التغييرات الديموغرافية والحشد الشعبي والقانون والسجناء السنة قبل بدء محادثات المصالحة.

وينقسم السياسيون السنة أيضا بين أولئك الذين يدعمون مؤتمر أنقرة الذي ترعاه تركيا والذي عقد في 8 آذار / مارس، وجمعوا فيه العديد من السياسيين السنة البارزين لتوحيد الجبهة السنية، وأولئك الذين أيدوا خط الحكومة العراقية برفض المؤتمر. ويعتقد أن المؤتمر الذي حضره ممثلون من دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والأردن والمملكة العربية السعودية هو إستمرار للجهود التي تبذلها البلدان السنية في المنطقة والولايات المتحدة لخلق توافق سني في الآراء حول رؤية ما بعد داعش في العراق. وتهدف هذه الجهود أيضا إلى توحيد الجبهة السنية في كتلة سياسية واحدة قبل الانتخابات التشريعية المقبلة المقرر إجراؤها في عام 2018. وفي حين أن نتائج محادثات أنقرة لا تزال غير واضحة، فإن الصوت المسرب من محمد الكربولي في المؤتمر كشف عن تشكيل تحالف سني كبير يعمل على توحيد الفصائل السنية المختلفة تحت رؤية واحدة معارضة للطائفية وتقسيم العراق إلى مناطق متعددة. والتحالف الجديد الذي ستترأسه لجنة من الكربولي تضم فيها الجبوري، لا يمنع السياسيين السنة من العمل بشكل منفصل في الانتخابات المقبلة، ولكن أصواتهم سوف تذهب نحو التحالف.

في الختام، ,في الوقت الذي أصبحت فيه داعش عدواً مشتركا لجميع العراقيين ومن جميع الخلفيات الإثنية والدينية المختلفة، فإن هزيمتها في الموصل ستعيد توجيه الاهتمام المحلي إلى المشاكل التي لم تحل والتي يمكن أن تؤدى إلى إضعاف الدولة العراقية وتمهد الطريق للإغارة الإرهابية من جديد. وهكذا، فبعد داعش، يجب على الطبقة السياسية العراقية أن تعالج القلق الصعب الذي طال إنتظاره والذي أثارته مختلف القوى في البلاد.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات