لن يستطيع احد نكران ، أن تقسيم العراق على أساس طائفي – عرقي كان ويبقى مشروعا أمريكيا ( مشروع بايدن ) ، إلا ان تحقيقه يستلزم توفر ظروف وآليات وأطراف مستعدة لتنفيذه. ولعل ما جرى من تداعيات باحتلال مدينة الموصل ومدن وبلدات عديدة من قبل قوى إرهابية من داعش والقاعدة والفلول البعثية الفاشية وغيرها من القوى المتضررة من العملية السياسية ومن سياسات اقصائية طائفية – عرقية اعتمدتها الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط النظام الفاشي عام 2003 ، وبالأخص حكومة السيد نوري المالكي، وهيمنتها على مراكز القرار السياسي والاقتصادي ، وكان شخص السيد المالكي عاملا مضافا للتوتر والصراع، واستمراره بالسلطة يعني المزيد من التفكك والتفتيت لكيان الدولة العراقية . وبالتالي فأن كل ذلك يوفر إمكانية تحقيق أهداف المشروع الأمريكي .
تضافرت العديد من العوامل الداخلية والخارجية لوضع تركيبة هجينة من التحولات والمتغيرات السياسية الخطيرة على الساحة العراقية . فضحت غياب الرؤية الإستراتجية السياسية – الاقتصادية للسلطة، وطرق ووسائل معالجتها للأزمات. ودائماً ما يتم اللجوء لطرق ترقيعية لا ترتقى للمسؤولية الوطنية في مواجهة تهديدات التنظيمات الارهابية بمختلف مسمياتها، والتي تستهدف الدولة العراقية والشعب العراقي. ودائما ما كان الحليف الامريكي ( الاستراتيجي ) يشكك في قدرات السلطة العراقية وأجهزتها الأمنية والعسكرية ويعافها وحدها في مقارعة الإرهاب وخطره . وهذا الأمر يبدو ملفتا للنظر و غاية بالأهمية، ينافي ويلغي مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية كدولة محتلة (سابقاُ ) لم تلتزم بالعهود والمواثيق الدولية ( اتفاقية جنيف ) وتنكرها ( حاليا ) للالتزامات المشتركة مع الحكومة العراقية، حسب معاهدة أو اتفاقية التحالف الاستراتيجي طويلة الأمد، التي تنص وتقر بأهمية تعزيز الأمن ومساعدة الجانب العراقي في محاربة الإرهاب .إن تنصل أمريكا من المسؤولية واتفاقياتها المشتركة، سوف يضاعف إمكانية وقوع انتكاسات خطيرة في مجمل العملية السياسية ووضع الدولة العراقية . وقد يؤدي ذلك إلى صراعات أهلية، طائفية – عرقية ، تعززها تدخلات خارجية سعودية- ايرانية- تركية – روسية – سورية ، وأن المستقبل مفتوح على أسوء الاحتمالات مع غياب رؤى ومشاريع سياسية ومجتمعية تقارب وترفع سقف الثقة بين الجميع. وأن تنظيم فعاليات للقوى الحية لهو مهم في الوقت الراهن، لغرض الارتفاع لمستوى التحديات المطروحة ، وهي جسام يستحيل على قوة بعينها ولوحدها الوقوف بوجهها .
يستحيل أن يستمر الوضع القائم بأفكاره وطروحاته ورجاله وبما قدمه من مستويات ومعالجات، أو أن يعود الوضع من جديد إلى ما كان عليه قبل 10-06-2014 . الواقعية السياسية وظرفها تقتضي توافق في البرلمان وخارجه على رسم معالم دولة عراقية جديدة ، فالتداعيات الخطرة والمصاحبة لها عامل أساس ومصيري وفرصة موضوعية لخيار التوافق الوطني وخلاف ذلك فالدولة العراقية ( الحالية ) ذاهبة ومعها مواطنوها نحو المجهول .
أن الدولة العراقية ومنذ تأسيسها عام 1921 ولحد اليوم , لم تبنى أو تكون نتاج تعبير حر وطوعي لإرادة المواطنين العراقيين الذين يعيشون على الأرض العراقية وإنما وبشكل غالب هي نتاج قوة وتدخل خارجي وبالضد من أرادتهم الحقيقية . ودائما ما مارست السلطة القسر والظلم والعنف المنفلت والمنظم للسيطرة على مكونات الشعب وقواه. ويلاحظ بأن هيكلة السلطة دائما ما كانت تأتي دون خيار الجماهير. فتارة باسم (ملك مستورد ) متوج بإرادة ومصالح استعمارية بريطانية وأحيانا باسم ( الثورة ) بانقلابات عسكرية، ومن ثم توج ذلك بسلطة حزب فاشي ( البعث ) وأخيرا جاءت السلطة نتاج حرب وغزو واحتلال أمريكي ، واليوم تمارس السلطة العسف والقهر والحرب باسم الديمقراطية
والحرية ، واستأثر الممسكون بتلابيبها بعوامل القوة والثروة والامتيازات . ولذا لايمكن القول بأن النظام الحالي في العراق يستند إلى سيرورات إنتاج لسلطة تحتكم لهياكل الديمقراطية وشروط الحريات المدنية ، فالنظام الحالي ( المشوه ) هو استمرار وإضافة لما سبقه من أنظمة وسلطات عراقية .
ومع اعترافنا بأن العملية الانتخابية ليس غير مقدمة جيدة في النظام الديمقراطي ولكنها لن تبني دولة ديمقراطية دون أن ترافقها بنى ومناهج تؤسس لمشروع ديمقراطي متكامل. ولذا يثار السؤال المشروع، و نحن في بداية مرحلة برلمانية جديدة، تقع أمامها مسؤوليات كبيرة وخطيرة تتعلق بمصير وطن وشعب، فهل يستطيع البرلمان بدورته الجديدة إحداث التغيير الحقيقي بشكل وطبيعة وتركيبة مغايرة لسابقتها في النظام العراقي، والخروج من نفق نظام المحاصصة ؟ ، هل يستطيع العراق الانتقال من نظام طائفي – عرقي ،نحو بناء نظام مدني ديمقراطي ؟ .
أن شعبنا العراقي أمام خيارات محددة ، إما إلغاء تركيبة هذه الدولة ليحل محلها دولة عراقية جديدة قائمة على اتحاد حر بين المواطنين العراقيين ، اتحاد ينطلق من حرية الإنسان في تقرير شكل حياته وعلاقته بالآخرين، ,ونوع وطبيعة الشراكة المبتغاة ، من خلال وضع أسس لأطر وهياكل لدولة بمؤسسات منتخبة قائمة على التوازن بين القوى ومحصنة ضد قدرة احدها على تغيير التوازن بشكل قسري أو اعتباطي . أنني أدرك أن مثل هذا الخيار سوف لايقنع ولا يلقى القبول أو الاستجابة عند البعض .
وأطرح الخيار الثاني وهو الداعي لإعادة النظر بمجمل العملية السياسية الحالية من خلال مؤتمر حوار وطني حقيقي تشارك فيه جميع الفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية من داخل ومن خارج البرلمان العراقي وكل صاحب مطالب وتوجه وطني، وهو خيار يمكن معه تجاوز معطيات ما تكرس وترسخ اعتباطيا بعد 2003 .وإعادة النظر بالدستور العراقي ليتلاءم ومعطيات دولة مدنية ديمقراطية . هكذا مؤتمر ان توفرت الثقة والنية والمصداقية للمشاركين فيه ، ربما يمكن معه تنظيم نموذج جديد للدولة العراقية مختلف عن سابقاته ، دولة ضامنة للحقوق وحريات مواطنيها وقادرة على التصدي للإرهاب ودحره .
يجب أن ندرك إن الحريات والحقوق هي حقوق نسبية حتى وان نص عليها الدستور، إن لم يكن تنظيم الدولة بشكله الواقعي ضامن لتنفيذ هذه الحقوق ، النظام البرلماني لوحده غير كاف لضمان هذه الحقوق . البرلمان وان كان منتخبا قادر على خرق هذه الحقوق بتشريع قوانين ولوائح عبر توافقات بين كتل وأحزاب ووفق مصالحها وأغراضها، تلتقي في أحيان وتتعارض ومصلحة المواطن الفرد في أحيان أخر . أن الوضع الخاص بالعراق والذي يتميز بان السلطة المركزية وهي التي تستلم عائدات النفط وتسيطر على الجيش والأجهزة الأمنية وهي القوة المنظمة الوحيدة القادرة على أن تمارس ديكتاتورية بشعة حتى وان أخرجتها بشكل ديمقراطي ، ولعل السنوات العشر الأخيرة بينت عقم سياسات واجتهادات الكثير من القادة، كلفتنا المزيد من الضحايا الأبرياء وصراع مسلح كان يمكن تلافيه وإيقاف تداعياته لو توفرت الحكمة والمشورة في بناء دولة عراقية قائمة على اتحاد حر بين المواطنين العراقيين .