18 ديسمبر، 2024 8:46 م

كلما يتقدم الوقت كلما تتكثف الغيوم في سماء العراق وتعرض مشاكله عن نفسها انها عصية على الحل. ومن لا جدال فِيه ان التاريخ يعيد كتابة نفسه. يقتبس الاخوة الاكراد اليوم ما قاله العرب بالامس ، قال العرب عن حرب حزيران سنة ١٩٦٧ انها نكسة وليست هزيمة ، وقالوا انهم خسروا معركة ولم يخسروا الحرب ، وقالوا ايضا أنهم خسروا المعركة لان الطائرات المغيرة لم تأت من الشرق بل جاءت من الغرب؟

 

اليوم الاخوة الاكراد يقتبسون ذلك ويقولوا انهم خسروا معركة ولم يخسروا الحرب. ويقولوا انهم فقدوا كركوك بسبب خيانة فريق سياسي في السليمانية غرد خارج السرب الكردي ، وتعاون مع الطرف الاخر المناؤ او المعادي بدلا عن يدافع عنها. ويقولون انهم لم يسمحوا للدماء الكردية ان تذهب سدى ، وان الاكراد سينالون مرادهم ان عاجلا او اجلا.

 

وأللافت ان الاخوة الاكراد يشبّهوا اليوم انفسهم بالفلسطينيين ، بعد ان شطبوا بالامس فلسطين والشعب الفلسطيني من الذاكرة الكردية ، ويقولوا أنه مثلما لم تثن الثورة الفلسطينية الانتكاسات العديدة التي صادفتها عن مواصلة طريق النضال لنيل الحقوق الفلسطينية ، سنواصل نحن ايضا النضال من اجل نيل الحقوق الكردية. ويا ترى هل ينظر الاخوة الاكراد اليوم الى العراق على انه اسرائيل؟

 

ان الاستفتاء الذي اجراه السيد مسعود البرزاني يوم ٢٥ ايلول الماضي مازال غامضا من كل الوجوه ، وما زال يخبأ الكثير والكثير عن ما كان يدور في ذهن السيد مسعود البرزاني وفِي ذهن هؤلاء الذين كانوا على مقربة منه بغض النظر عن مسمياتهم. ومن ذلك لا اعتقد ان تأجيل إجراء الاستفتاء لموعد اخر كان يمكن ان يغير من الموضوع شيئا ، فألاستفتاء غامض ، وفِي الاقل غير صريح ، ويعبر عن ذلك اختلافه في كل شيء عن الاستفتاءات الاخرى التي جرت في ارجاء المعمورة من حيث الشكل والمضمون والتوقيت.

 

فمن حيث الشكل فقد جرى من طرف واحد وهذا غير مقبول وفق منطق الاستفتاءات أينما كانت. فقد أصر السيد مسعود البرزاني على ان لا يستمع لأحد او يأخذ بأية وجهة نظر اخرى بالضد منه ، سواء كانت تلك الدعوة داخلية من داخل البيت العراقي ، او دعوة إقليمية من داخل البيت الإقليمي المتشابك مع العراق ومع الاقليم الكردي ، او الدعوة الدولية ، وتلك الدول الكبرى ، لاسيما الولايات المتحدة ، لا يقل دورها أهمية عن الدور الإقليمي ، فهي معنية بالعراق ، كما الدول الإقليمية معنية به.

 

وغامض (الاستفتاء) من حيث المضمون اذ لم يتم اقتصار إجراءه على المحافظات الثلاثة او الان الأربعة التي يتكون منها الاقليم فقط ، تلك المحافظات المتعارف عليها انها كردية داخليا واقليميا ودوليا ، وانما ضم الاستفتاء الى الاقليم الكردي أراضي اخرى تساوي نصف أراضيه وغالبية سكانها غير أكراد. ان مساحة أراضي المحافظات الكردية الثلاثة ٧٥ الف كم مربع ومساحة الاراضي التي ضمت اليها ٣٧ الف كم مربع ، بطول الف كم من الحدود السورية الى الحدود الإيرانية.

 

واخيرا الاستفتاء غامض من حيث التوقيت ، فلماذا الإصرار على إجراءه وفِي هذا التوقيت والمعركة على أشدها للقضاء على تنظيم داعش الإرهابي في الحويجة وفي مناطق اخرى؟

 

وربما هذا وغيره يدفعنا ان نسأل ، هل كان السيد مسعود البرزاني يعتقد ان الصدام مع المركز قادم لا محالة؟ وان ما يؤخر الصدام من جانب المركز ، الانتظار لحين الانتهاء من داعش الذي تراه الحكومة العراقية انه قريب ، ومن ثم تتفرغ الحكومة لمعالجة الوضع مع كردستان؟

 

هيأ ومن وقت متقدم ، الوضع الجغرافي للمنطقة الكردية التقليدية او المحافظات الثلاثة ، الإدراك التام للزعامة الكردية بعدم إمكانية بناء دولة كردية على هذه الحالة ، جبال كردستانية وسط جبال تركية واُخرى إيرانية ، الامر الذي دفع الاخوة الاكراد ان يبنوا طموحهم من البداية على الوهم في ان بأمكانهم التوسع الجغرافي داخل العراق لتوفير فرصة أوسع لإقامة دولة تعززها الاراضي الجديدة والامكانات الهائلة في الثروات الطبيعية التي ستضاف اليها في ما لو نجحت في ان تضم اليها كركوك وبقية الاراضي الموصوفة أعلاه. بل حتى بنيت الافكار الكردية على فكرة لَا دولة كردية مستقلة قابلة للعيش وكركوك خارجها.

 

والاعتقاد الملازم لذلك ، الذي توفر للاخوة الاكراد بصورة خاطئة ، ولا يزال ذلك قائم في الذهنية الكردية ، (١) ان النظرة العالمية التي يقيد تفكيرها توجيه معين معادي للعرب ترى ضرورة تجزأة العراق وتفريغه من كل المحتويات الستراتيجية التي تحفظه كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة. (٢) ان الفوضى التي خلقها الاحتلال في العراق سوف تستمر حتى يتفتت ويتقسم. (٣) ان طموحات واهداف الثقافة القومية الكردية هي غير تلك لدى الثقافة القومية العربية. هذه كلها عوامل ، بغض النظر ان كانت صحيحة او وهمية ، يعتقد الاخوة الاكراد ، انها سوف تدفع العالم ان يتعاطف مع الاكراد دون سواهم. وعلى وفق ذلك ، حسب التصور الكردي ، لن يبقى امام العراق وكذلك الدولتين الإقليميتين المعنيتين ، تركيا وإيران ، غير القبول بالأمر الواقع ، لا سيما وان مصالح الدولتين الإقليميتين ، تركيا وإيران ، قَد تشابكت مع الإقليم. هذه هي الصورة الوهمية التي خيمت على ذهنية الزعامة الكردية وتشبعت بها وعادت لا ترغب ان تسمع ما هو بالضد منها.

 

الخطاب الرسمي العراقي الحالي يدعم ضمنيا الرأي ان التصادم مع الاقليم كان مؤجل لعدة عوامل داخلية والأن قد حان موعد الحساب لإعادة الأمور لمجاريها الطبيعية وشطب كل ما هو غير طبيعي من السجل العراقي المعاصر ، وأولها شطب كل ممارسات ومكاسب الاقليم التي تتقاطع وسلطات الحكومة الاتحادية. ان الصورة التي تعرضها وجهة النظر العراقية الآن لعلاقة الاقليم بالمركز ، لا تبقي الخصوصية الحالية التي يتمتع بها الاقليم ، وربما ان الفدرالية سوف تتحول الى اللامركزية وستعمل كل محافظة كردية بمعزل عن المحافظات الاخرى.

 

ان الدعوة الى الانفصال التي أطلق شرارتها الاستفتاء ، وما تبعها الدعوات الاخرى الى الفدرالية في المحافظات الغربية والاخرى الجنوبية من العراق ، والتي كلها كانت تنتظر الإشارة وتتحين الفرصة ، قد تدعو الحكومة المركزية لان تعيد النظر بهذا المجال الواسع والغامض الذي يوفره الدستور الحالي للتقسيم بأسم الفدرالية. وربما تتبنى الحكومة العراقية ، في ضوء ما تقدم ، فكرة اللامركزية بدلا عن الفدرالية. وقطعا هذه فكرة إقليمية ايضا في ضوء تجربة الاستفتاء الاخيرة للانفصال عن العراق.

 

بدون شك ان ما حققه العراق الان في ما يتعلق بألغاء نتائج الاستفتاء وبسط يد الدولة على كركوك وبقية الاراضي الاخرى قد تحقق بدعم إقليمي من الدولتين الإقليميتين تركيا وإيران وبمصادقة أمريكية واضحة. ولا بد لهاتين الدولتين الإقليميتين تركيا وإيران ان تسهمان في تنظيم البيت العراقي من الداخل وفق نظرتهما للامن الإقليمي لكل منهما ، واول خطوة في هذا الاتجاه تقليم أظافر الفدرالية الممارسة في الاقليم وتجريدها من كل التوجهات التي قد تضر بكل منهما في المستقبل. وان المؤشر على ذلك دعوة رئيس وزراء تركيا بن علي يلدرم بعد عودة كركوك الى حضن الام ، دعوته الى اعادة النظر في التركيبة الديمغرافية لمحافظة كركوك بعد ما شابها كم واسع من التزوير للتركيبة الديمغرافية الحالية بأضافة إعداد كبيرة من الاكراد الى سجلات الأحوال المدنية للمحافظة من غير سكانها ، فضلا عن الاضطهاد والتهجير الذي اصاب كل المكونات الاخرى في المحافظة لصالح المكون الكردي.

 

وبعبارة اخرى ليس بمقدور العراق بعد الان ان يرسم سياسته الداخلية تجاه الاقليم الكردستاني بمعزل عن الدولتين الجارتين تركيا وإيران. ولابد ان العراق يدرك الان ذلك لانه لم يكن ان يستطع تحقيق الذي تحقق من غيرهما.

 

والان نعود الى مقدمة المقالة بخصوص الغيوم الكثيفة التي تتجمع في سماء العراق ، فما نوع التوازن في ميزان القوى الذي يمتلكه العراق مع تركيا وكذلك ايران؟ في الماضي وفِي ظل ميثاق حلف بغداد كان النظام الملكي مستقرا على خلاف كل من تركيا وإيران في حينه ، وكانت بريطانيا تدعمه لمصالحها الواسعة في العراق ، ولكن اليوم ليس كالأمس ، والعراق ليس ذلك العراق ، أين ستنتهي المصالح الإقليمية لكل من تركيا وإيران لتبدأ مصالح العراق الوطنية؟

 

كما فعل الاخوة الاكراد في الماضي عندما رجحوا الطموحات الإقليمية على مصلحة العراق الوطنية ، أعادوا فعل ذلك اليوم بدعوتهم الى الانفصال عن العراق.