“العراق البلد الوحيد ماضيه احسن من حاضره”.
يقولها ويمضي متجولا بين أطلال شوارع وبنايات احتفظ على مدى أزيد من ستة عقود بصور مشرقة عنها، ليس في الذاكرة الحية فقط، بل وفي اشرطة”نكتف” بالأسود والأبيض وبكاميرا آلية يغير أشرطتها بيد بقيت قوية وعينين ثاقبتين تصنعان الجمال حتى المقطع الأخير من عمر شارف العقد التاسع.
توفي المصور الفوتغرافي الرائد لطيف العاني شتاء العام 2021 بعد اربعة شهور من انتاج الفلم الوثائقي المبهر للعراقي سهيم عمر والنرويجي يورجن بوديتس( العراق الجمال الخفي).
يعود العاني إلى بغداد بعد ان نزح منها اثر تفشي الرعب والارهاب بفعل الاحتلال، وقبلها عام 1979 منعته السلطات الحاكمة انذاك من تصوير العراق إلا بموافقات خاصة.
يظهر المصور الفوتغرافي بجسده النحيل في الشريط السينمائي( جمال العراق الخفي) على مدى 90 دقيقة،تمثل مرثية للعراق الذي كان.
يتجول العاني مع فريق التصوير بسيارته الأميركية القديمة موديل “بيوك” حقبة الخمسينيات وكان في حياته المديدة مغرما باقتناء السيارات الفارهة؛ ليتفقد ما تبقى من عراق الذاكرة:
” التقطت ربع مليون نكتف ووثقت العراق من الشمال الى الجنوب. الصور هي ما تبقى وتحت المباني والإمكان الجميلة كان يتسربل الخوف أما اليوم فقد تحولت إلى خرائب وأطلال وفي الموصل التي أحببت وكنت امر بها كلما سافرت إلى الشمال ماتزال الجثث تحت البيوت في الحي العتيق بعد حرب داعش”.
تبدو الدموع عصية على العاني المكلوم بفقد ولديه، البكر في الحرب العراقية الإيرانية والثاني في الحرب الطائفية بعد الاحتلال حين أطلقت فتاوى العنف والظلام العنان للقتل على الهوية.
لم يهز الخراب الهائل صورة العراق البهي في ذاكرة الرجل المفتون بجمال الناس والحجر والطين والأشجار والنخيل ومطحنة الزيوت في حي موصلي قديم لم تتلاشى عن ذاكرته والتقطت عدسته صورتها المدهشة كما لم تفلت من عينيه وجوه رواد مقهى الشابندر التي فقد صاحبها مع أبنائه حياتهم بانفجارات الارهاب.
لا يستعيد الفوتغرافي الفذ محطات الذاكرة، بل يحرك الشريط الذي توقف لتظهر آلاف الصور عن عراق آخر لم يعد متاحا لأجيال ولدت بعد مسلسل النكبات وآخرها الاحتلال وسطوة الهمجية واللصوصية والمعاداة الفطرية للمدنية واستطرادا كره الجمال وبغض حياة الحضر وطقوسها اليومية الرتيبة لكنها تنبض بالصور.
يقول الدكتور سعد محسن ناجي من مجلس الأعمال العراقي في الأردن، المؤسسة التي تولت تقديم الفيلم بعمان:
“الراحل لطيف العاني توقف عن تصوير العراق عام 1979 بناء على قرار من صدام بمنع تصوير العراق الا بموافقات أمنية خاصة، انتقل نجلا الراحل الى رحمة الله في العراق، الأول في الحرب العراقية الإيرانية والثاني في الحرب الطائفية بعد 2003 و اعتكف الراحل العمل بعدها خوفا ان تصادر كامرته اذا خرج للتصوير وفي عام 2015 عُرضت أعماله بمبادرة من مؤسسة رؤيا بإدارة تمارا الجلبي و عرضت أعماله في الجناح العراقي ببينالي فينسيا السادس والخمسين و على اثرها قام هاتجي كانتز بنشر أول بحث عن أعمال الفنان العاني، مُنحَ عنه جائزة الكتاب التاريخي لعام 2017 وقامت تمارا بتنظيم معرض لصور العاني في جاليري كونينغزيي عام 2017 في لندن بعدها توالت الجوائز العالمية”
ويفيد الدكتور ناجي:
” اعتكف الراحل بيته في بغداد إلى أن عرضوا عليه المشاركة في فلم عن سيرة حياته وفنه الراقي وشارك في إنتاج الفيلم العراق وبلجيكا وفرنسا من إخراج سهيم عمر و يورجن بويدتس، وبعد ان تجاوز الثمانين انطلق في رحلة برية بسيارته القديمة مقتفياً الأماكن التي سبق أن التقط صوراً لها . وأخذته الرحلة إلى مناطق ريفية عاث فيها تنظيم الدولة الإسلامية فسادا قبل سنوات، كما زار مدنا دمرتها الحرب, فريق الفيلم رافق لطيف العاني على مدى خمس سنوات وكانت النتيجة رحلة تاريخية لشاهد يعتبر رائد التصوير العراقي”
ويكتب ناجي:
“توفي لطيف العاني بعد صراع مع مرض السرطان في مستشفى مدينة الطب في بغداد، ليلة الخميس 18 تشرين الثاني 2021م وهو في أواخر العام 89 من العمر”
يذكر العاني في الفيلم ان آلاف الصور ضاعت من أرشيف الدولة العراقية بعد الاحتلال، كان التقطها على مدى سنوات عمله في مجلات ومطبوعات وزارة النفط العراقية منذ زمن المجلة الرائدة في الحياة الثقافية العراقية ( العاملون في النفط).
العراق البلد الوحيد بماض أفضل من الحاضر. يقولها بهمس وكأنه يخشى الوشاة. ويطلب من احد محدثيه في الموصل بصوت خفيض أن لا ينكأ الجراح حين يسأله لماذا حل بالعراق هذا الخراب؛؛؛
خلينا ساكتين الله يخليك!
يعتقد الفوتغرافي وقد جايل الدولة الملكية والجمهوريات والانقلابات التي عصفت بالعراق ان ” الإنكليز وراء الانقلاب على الملك”!
تنطلق نظرية العاني من الوله بانسيابية الحياة في بلد النهرين العظيمين والأهوار الصافية بماء زلال في الماضي فقد عاش دهر الأعمار والبناء وعاصر الأيام الحلوة الشهية وذاق الرفاه. .
لعل مشهد رحلته الأخيرة الى الأهوار بعد السنوات العجاف أحد اكثر مشاهد الفلم رمزية حين يخترق المشحوف أشجار القصب ويتطاير رذاذ الأهوار على الجسد النحيل وكأنه يغتسل للمرة الأخيرة بمياه وطن يبكيه مصور تفنن في إبراز مفاتن أبنائه وسحر وجمال أثاره.
” لم تبق إلا الصور” يرددها العاني بأسى يمزق نياط القلب.
لو كنت صاحب الفيلم لأسميته( العراق الموؤود).