19 ديسمبر، 2024 6:53 ص

العراق المقاوم للتجسس الامريكي

العراق المقاوم للتجسس الامريكي

الامريكان يعلمون جيداً، انه اذا تشابهت الاسباب والمقدمات تماثلت الخواتيم والمحصلات. اذ هكذا تقول الفلسفة والمنطق معاً بازاء القضايا المبحوثة فيها. والامريكان يعرفون جيداً انه اذ تماثلت الظروف والعوامل تشابهت النتائج والبدائل، اذ هكذا تؤكد العلوم التطبيقية مجتمعة ازاء التجارب المختبرية والمعملية.
اما نحن، هنا فسننقل الى الحياة السياسية لنقول ما يجري فيها تماماً مع مافي ذينك الحقلين المعرفين الواسطين تلقاء كل حدث سياسي واحد، وفي اي مكان او زمان، اذ ليس الامريكان فقط من يعرف ذلك جيداً او يدركه، بل كل مثقف في العالم، سواء بالممارسة والاختصاص ام بالهواية والاقتباس، ولا نستثني من ذلك اي سياسي في المواقع المتقدمة في العالم على ان لا يعرف ذلك او يدركه بالحاجة او الضرورة، ثم من بعد ذلك، وهو مهم ايضاً، يصبح تبادل الطرفين طرفي المعادلة المتكافئة او العلاقة المتكاملة من غير تردد ومن دون حرج.
    تقف الولايات المتحدة على واجهة هذه العلاقة (النظرية- التطبيقية) مشدوهة في مواجهة تكرار الاحداث ضد مواطنيها ومصالحها معاً، ومنذ مطلع خمسينات  القرن العشرين، اي منذ بدأت الولايات المتحدة دس انفها في الشؤون الداخلية للدول الاخرى ومحاولتها التصرف بمستقبلها ايضاً وهي تعيد مراراً المقدمات والاسباب نفسها وتفرض قسرا الظروف والعوامل عينها، فلماذا تريد اذن تغيير النتائج والمحصلات والخواتيم والبدائل المتوقعة والمنتظرة؟ بل لماذا نراها تذهب بعيدا في التصعيد والتشدد في سلسلة الاسباب والمقدمات وخلق الظروف والعوامل بسوء وغباء او سذاجة ثم تتوقع بعناد ومكابرة واستهتار التنازل والارتخاء او الاستسلام في النتائج والخواتيم والمحصلات والبدائل مع جميع دول القارات؟
  في الراجح من التحليلات انها مسألة سايكولوجية مبنية على مصالح انانية وغير انسانية تقضي الى الانحراف والشذوذ عن كل المعايير التاريخية النظيفة والاخلاقية المشتركة.
  وبذكر جميع دول العالم تقف عند الاستثناء منها او فيها، الاستثناء المميز بصلابته والمتميز بتاريخه العريق وقدراته الهائلة، وقياداته الوطنية الخاصة: العراق الذي لا يخضع لما لا يخضع لقوانين العلم والفلسفة والمنطق القائم على الاخلاق اصلاً وغاية، بل يتوافق معها وينسجم تماماً، وكلما سارت الولايات المتحدة على عكس طريق هذه القوانين ازدادت الوطنية العراقية بعداً عنها ونفورا من طموحاتها خذلاناً لها في توقعاتها الخاصة حتى ولد المأزق الامريكي عالمياً واقليمياً، او على نحو ادق اقليميا فعالمياً، وبمواصفات جديدة ، وأبرز هذه المواصفات : المزاج المتقلب وسرعة الاستجابة الانفعالية ونزعة الانتقام المضاعف او تدرجاً ثم الوحشية والهمجية والعشوائية تخبطاً مع العراق او مع كل من له علاقة بالعراق او يقترب من العراق او يشم رائحة العراق المثيرة للتحدي ورفض الخنوع او الخضوع للجبروت المريض.
    اذن، دعونا نبحث على وجه التخصيص قضية واحدة في هذا الصدد في جانب الاستثناء العراقي ثم لمن يشاء ان يقيس عليه في قضايا اخرى، ولقد اخترنا هنا مسألة التجسس الامريكي قبل 9/ نيسان لانها وقعت فعلا خارج توقعات الامريكان ازاء تسخير الانسان او التكنولوجيا بهدف تحقيق تلك التوقعات (افتراضات مسبقة) عنوة ورغم كل الحقائق الموضوعية النقيضة مقابل وقوعها فعلا ايضا داخل التحوطات العراقية وقتئذ وحسها الامني الوطني والقومي (التكتيكي والستراتيجي) على مستوى الصعد وفي الاجهزة التنفيذية معاً.
     لقد كان التجسس البشري مقصورا على الجانب العسكري بدافع سياسي او منحصرا في الجانب السياسي فقط وعلى مر العصور التاريخية الطويلة، ثم اضيف اليه الدافع الاقتصادي واخيراً شمل كل شيء بالنسبة الى الولايات المتحدة اولا وقبل غيرها، تحت تأثير الشعور باهمية الشبكة المعلوماتية وحلقاتها المتكاملة، اي ان معادلة (الحافز- الدافع) اخذت شكل محاولة الهيمنة بوصفها دافعا وبفعل التجسس المعلوماتي الشامل بوصفه الحافز المتاح، اذ ان كل الحقائق الوصفية والرقمية عبر جميع الانشطة المجتمعية والفعاليات الدولية من الدولة واليها توفر قاعدة معلومات ممتازة لصانع القرار السياسي (العسكري- السياسي) على تصور صواب هذا القرار بسبب صحة تلك المعلومات الوصفية والرقمية من خلال التجسس التكنولوجي (الالكتروني والاقمار الصناعية… الخ) فضلا على التجسس البشري (المتمرس او التمويهي).
   ولم تتوافر فرصة ممتازة امام الولايات المتحدة ازاء العراق بالمزاوجة بين الطريقتين كما توافرت في لجان التفتيش التي عملت وقتها في العراق.اما ادوات هذا النشاط فقد تركزت في مهارة الاعضاء الامريكان العاملين في الهيئة التنفيذية حسبما كشفت من مذكرات ووثائق (ديفيد كي وسكوت ريتر)، ولكن في الجعبة اخرون ليس بعيداً عنهم كان ريتشارد بتلر، اذ كانت المراهنة الامريكية على العلاقة التجسسية القائمة على النشاط البشري المتمرس والتقني فقط حتى اذا احبطها العراق من خلال ابواب الكشف عن النشاط التجسسي التكنولوجي (الاقمار الصناعية والادوات الاتصالية الالكترونية السرية) بين اجساد الاعضاء الامريكان والاقمار الصناعية اي بين الارض والفضاء، وبذلك النصر الفني والنفسي الرائع وقتها انفصلت العلاقة بين الانسان والتكنولوجيا تجسسياً لاول مرة على هذا النحو الدقيق والشامل بفعل النشاط العراقي المقاوم للتجسس الامريكي، الامر الذي خلط الاوراق على طاولة ادارة المخابرات المركزية الامريكية ومن خلفها الادارة الامريكية نفسها في البحث عن مصدر الخلل في الانسان او في التكنولوجيا، بل في الترجيح كلياً بين الانسان والتكنولوجيا في التجسس على العراق حصرا وفي دول العالم الاخرى بعد تجربة العراق اطراداً.
    يمكن استخلاص مؤشرات مهمة في هذا السياق بقدر تعلق الامر بالتجسس الامريكي على العراق:ان الفرصة المتاحة للامريكان ـــــــــ وقتئذ ـــــ  للجمع بين الانسان والتكنولوجية في التجسس على ارض العراق وعلى كل ما فيه لم تعد وقتها متاحة فعلا على وجه اليقين، اذ لا الانسان المتمرس عاد كافياً لكل المهمات التجسسية الرقمية  ولا التكنولوجيا عادت وافية لكل المهمات التجسسية ، والعكس الادائي لا الوظيفي صحيح تماماً، الامر الذي اشتاط له الامريكان غضباً لان احتمال تكرار هذه الهزيمة التجسسية الثنائية بات واضحاً في دول اخرى، بل في العالم كله بسبب ريادة العراق (اؤكد وقتئذ) في سلامة تقدير المواقف وترجيح الاحتمالات وتفصيح الاحداث ابتداءاً من اصغرها حتى اكبرها ثم اصدار قرار الاتهام باليقين وليس لمجرد الشك او بالشك المجرد.
       ومن الغريب لا الطريف وحده ان يكون العراق نفسه اول بلد قاوم اول محاولة تجسس بشرية علمية منظمة عبر مشروع النقطة الرابعة (البوينت فور- 1954) حتى انكشفت اوراقها ــــــــ المهمات والاهداف والوسائل ـــــ الامريكية بعد ثورة 14 تموز 1958، ذهبت النقطة الرابعة ادراج الرياح، كما ذهبت اللجنة الخاصة وهيئتها التنفيذية في صخب امواج البحر، اذ لن يكون المأزق الامريكي محدوداً في نهايته بل مفتوحا حتى آفاقه، في السياسة والاقتصاد والعلوم… هنا يظهر دور الموساد الاسرائيلي واطلاعات الايراني في الاصطياد بالماء العكر فيقدمان الخدمات الاستخبارية للمخابرات المركزية مقابل خدمات عسكرية واقتصادية وسياسية ستراتيجية، فيصير للعراق عدوان مشتركان مضافان الى العدوان الامريكي وهو الجديد بايقاع الرعب في مفاصلهما معاً في كل حين رغم جراحه الطاهرة ودماؤه الزكية.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات