ما نعرفه بأن فكرة إنشاء دولة مدنية قائمة علی مبادئ المساواة و رعاية الحقوق إنطلاقاً من قيم أخلاقية في الحكم و السيادة بدأت بعد محاولات من قبل فلاسفة التنوير.
فالدولة هي إرادة المجتمع و مدنيتها يجب أن تنبع من إجماع المواطنين ومن إرادتهم المشتركة في إرساء مبادئ العدل و عدم خضوع الأفراد الی إتهاكات لحقوقهم من قبل أطراف أخری أو سلطة عليا، المتمثلة بالدولة، التي عليها تأسيس أجهزة سياسية وقانونية خارجة عن تأثير القوى والنزعات الفردية أو المذهبية لتطبيق القانون و البنود الدستورية.
والدولة التي لا تؤسس علی نظام مدني من التبادلات، التي تقوم أساساً علی السلام و التعايش السلمي و قبول الآخر المختلف والمساواة في الحقوق والواجبات و الثقة في التعاقد والتبادل، لا يمكن أن توصف بالدولة المدنية.
في العراق الفدرالي نشاهد “دولة القانون” و رئيسه “المنتخب” في سعي مستمر الی تحديد صور التبادل قائم علی الفوضی و العنف كأسلوب ووسيلة لتحقيق الأهداف الطوباوية والمشاريع المستحيلة و العيش الفردي والقيم المبنية علی إستراتيجية الرفض والإقصاء للمختلف، بالعمل علی إتهامه و نبذه أو استبعاده و إلغائه والنزعة المتطرفة، لا النظام والسلام و العيش المشترك و القيم الإنسانية العامة، ناهيك عن العمل في سبيل الحقوق المهضومة لشعب كوردستان في المناطق المستقطعة منه.
وما الديمقراطية، التي هي سمة من سمات الدولة المدنية، إلا الوسيلة، التي تتبعها الدولة المدنية، البعيدة عن خلط الدين بالسياسة، لتحقيق الإتفاق العام والصالح العام للكيانات المختلفة، كما إنها الوسيلة الأنجع للحكم العقلاني الرشيد وتفويض السلطة وانتقالها. والديمقراطية جسر لإلتئام الأفكار والتوجهات السياسية المختلفة بهدف إيصال المجتمع الی الرقي وتحسين ظروف المعيشة فيه و تعزيز نوعية الثقافة الحاكمة لعلاقات الأفراد وتفاعلاتهم نحو الأحسن. أين نحن من ذلك. إن السير في سلوك الجانب العسكري المشدد و العمل علی خضوع الدولة بسائر مؤسساتها لقرار المنظومة العسكرية تخطيطاً وتنفيذاً، لتغييب الواقع المدني و الإستعداد لخوض حروب داخلية من أجل جعل المجتمع عجلة تدور في فلكها، دليل آخر علی أن سياسة الحكومة الحالية غير منضبطة وغير محسوبة.
الشعب العراقي عانی الكثير من الظلم و الإستبداد من جراء العسكرة، التي شكلت حالة من الكبت النفسي لديه و طوقته بأسوار متعددة إبتداءً من مرحلة التنصت السري و المتابعة الظلية و إنتهاءاً بالقتل الجماعي و الأنفلة، لذا يرفض القوی الديمقراطية المؤمنة بالفدرالية و التعددية من هذا الشعب نظرية عسكرة المجتمع جملةً و تفصيلا ويعمل علی عزل وإبعاد أصحاب هذه النظرية من علی السلطة و مراكز القرار بأسلوب مدني متحضر. فالعنف والسلاح و لغة الطائرات الحربية و المدفع أو الحشد المرصوص والجمهور الأعمی و نشر “قوات عمليات دجلة” والتحركات العسكرية في المناطق المستقطعة لم يعد يثمر في هذا العصر، بعد أن أصبحت المصالح والمصائر متشابكة و متداخلة. أصحاب الهويات المغلقة و العقول المفخخة، الذين يستنكفون من ممارسة التقی والتواضع بالثورة علی الذات للتخفيف من أمراضهم النرجسية و مركزيتهم الإصفائية و إستبداديتهم يهدفون دوماً تمزيق الوحدة الوطنية و تخريب العمران محاولة وتصدير أزماتهم الداخلية نحو اقليم كوردستان.
ولكي لا نبقی علی الهامش أو في مؤخرة الركب العالمي علينا العمل علی إيقاف محاولات خرق الدستور من قبل رئيس الحكومة الإتحادية و دفع مخاطر التفرد ومنع عودة الدكتاتورية ، التي تخنق الشراكة الوطنية.
ولا يمكن البحث عن حلول جذرية للمشاكل القائمة بين الإقليم والحكومة الإتحادية عند دول لم تنجح هي علی أرضها في تحسين شروط العيش لمواطنيها و إحراز التقدم والإزدهار.
الدول المتقدمة أثبتت بأن الولاء للدولة لا يمكن أن يأتي بالتسلح والعنف و نشر الخوف والرعب و إستخدام الجيش في الصراع السياسي والحملات الشوفينية وتجسيد إرادة الشطب والإلغاء و بناء مصانع سلطوية لا تنفك عن إنتاج التفاوت والتفاضل أو الإنتهاكات و الإرتكابات المضادة للقوانين والحقوق، بل بنشر الأمن والأمان والإستقرار، كما الحال في إقليم كوردستان. أما شؤون البلاد فيجب أن تدار بالدستور والقانون، لأنهما المظلة التي يستظل بها كل مواطن.
وختاماً: يقول المفكر الأمريكي جورج هربرت ميد (1863-1931)، صاحب نظرية التفاعل الرمزي،”لا يمكن أن نطور وعي الذات بدون الاعتراف بالأخر”، فالمكابرة والغطرسة والإستكبار هي التي تولد العنف و تنتج الفتن و الحروب الأهلية و الإعتراف المتبادل يعزز و يبلور قيم التقی والتواضع أو التبادل والتضامن.