يحفل الموروث المجتمعي العراقي بمجموعة من المصطلحات والمفردات ذات الإستخدام متعدد الأغراض والمشبع بالإيحاءات والرموز والدلالات ، ما يحوي خلاصة فلسفية لسيرورة شعب ومجتمع وجد على هذه الأرض منذ أزمنة أزلية الجذور.
ومن أبرز تلك المفردات كلمة ” نتكاون ” التي تعني في العراق خصومة تكون في العادة حلقة وسطى تقع ما بعد المشاجرة وما دون العركة ، ويطلق على هذا النوع من النزاع مفردة (مكاونة – أو كونة، إذا كثر عدد المشتركين بها ) .
لقد قسّم الموروث العراقي وبمقايسس دقيقة، أنواع الخصومات والنزاعات التي يمكن ان تقع في المجتمع أفراداً أو جماعات ، فهي تبدأ من المشاجرة التي تقتصرعلى تلاسن أو تشاتم بين شخصين ، قد تتحول إلى مرحلة التضارب بالأيدي والأرجل .
أما إذا تدخلت أطراف أخرى من كلا المتشاجرين من غير اللجوء إلى السلاح ، وبقيت من ثم مقتصرة على إستخدام أجزاء الجسم ، فتسمى عندها (كونة ) .
وفي حال تطورت الأمور الى درجة إستخدام الأسلحة من عصي أو مدى وخناجر أو السلاح الناري ، فيطلق عليها عندئذ (عركة ) وهي في العادة محدودة في الزمن .
واذا أردنا تصنيف تلك المفردات حسب تدرجها الحدثي ، فيمكن إدراجها وفق الآتي :
1- المشاجرة: وتقع بين عدد قليل من الأفراد –( السلاح ) المستخدم فيها : أطراف الجسم ، أما إذا استخدم فيها سلاح قاتل كالسيوف أو الخناجر أو الأسلحة النارية ، فتسمى مبارزة ، وقد تكون بشكل إفرادي وبتحدّ مسبق ، أو في التمهيد للمعارك ، كما كان شائعاً في العصور القديمة .
2:الكونة أو المكاونة – حين تحدث بين أطراف متعددة ، وبنفس النوع من (السلاح ) أطراف الجسم .
3: العركة – تقع بين أشخاص عديدين أو عشائر مختلفة وبزمن محدود، يكون السلاح المستخدم فيها: أما من النوع القاتل أو المؤدي غالى القتل ، أو المقتصر على السلاح الجارح ( كالعصي وماشابه ) .
4: الحرب – سلاحها قاتل بالضرورة ، تقع بين جيوش أو مجموعات مسلّحة ، وتمتدّ زمناً يطول أو يقصر تبعاً لأهداف الحرب ومعدّل القوّة بين المتحاربين ، أما إذا تحددت زمناً ومكاناً ، فتسمى معركة – وهي قد تكون منفردة ، أوجزءاً من الحرب ذاتها – ومن أساليب المعارك تدخل مفردة الصولة : وهي الهجوم بواسطة الفرسان ، أما الهجوم الشامل لتنفيذ خطّة معدّة مسبقاً، فيطلق عليه الحملة ، وقد تكون معركة واحدة أو سلسلة من المعارك ضد هدف واحد ، فيما تمثل الإغارة أسلوباً للهجوم المباغت يتبعه إنسحاب .
5- الحرب الأهلية : تستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة ، لكنها تقع بين مجموعات مختلفة الأعراق أو الديانات أو المذاهب ضمن المجتمع الواحد ، وهي أيضاً تأخذ حيزاً في الزمن كما في الحرب ، وتنتهي في العادة بتدمير متبادل نتيجة لتعادل القوى ،ثم تعايش مشترك أو إنفصال كلّي.
وهكذا يظهر الإختلاف بين النزاعات المسلحة التي تقتصر واقعاً على مفردتين : العركة بخصائصها الزمنية وطبيعتها المجتمعية ، والحرب بأدواتها القتالية وغاياتها (السياسية أو ضمن محورها ) ففيما تقع الأولى بين أفراد في المجتمع الواحد وتبقى محصورة بين فئتين أو عشيرتين في زمن محدد ، ومن دون ان تتحول إلى حرب أهلية حينما تشارك فيها مكونات بتسميات محددة طائفية أو عرقية أو دينية ، تعرف الحرب بأنها تلك التي تقع بين دولتين أو جيشين أو قوى منظمة ومسلحة (1)، أي ان الحرب الحديثة تكون مرافقة لإستخدام الأسلحة النارية بمختلف صنوفها ولاحرب من دون نار ، من هنا جاء الإيعاز ببدء الإطلاق في كافة الجيوش بكلمة (نار) أيا كانت اللغة المتّبعة (2) .
الملاحظ ان مفردتي المشاجرة والكونة ، ولأن أسلحتها الرئيسة تقتصر على أجزء الجسم كما أسلفنا ، فإنها تخلو في العادة من ضحايا – قتلى أو جرحى – لذا سرعان ماتنتهي بصلح قد يعقبه صداقات حميمة بين المتكاونين .
وكلمة (نتكاون ) تستخدم حينما يشرع في فعل العراك من قبل طرفين أو اكثر، أما اذا كانت في مرحلة الإستعداد من طرف واحد ، فيقال ( نكاون) ، وتلك مفردة لم تقتصر على إستخدامها الإجتماعي وحسب ، بل دخلت في عالم السياسة كذلك ، إذ وردت على لسان أحد القادة السياسيين في ندوة تلفزيونية ، قوله : ( مستعدين نكاون ) .
لاشك ان المفردة مشتقة من فعل التكّون ، تكّون الشيء: نشأ وتشكلّ ، أي إجتمع على بعضه ليتحوّل كائناً ذا مواصفات خاصة .
ذلك الإستخدام المصاغ بطريقة بارعة ودقيقة الإيحاء لمعنى العراك ، لابد انها جاءت وفق خصوصية عراقية ، إذ لم يسمع بمثلها في مكان آخر من الأقطار العربية ، أو ربما وجدت في مناطق محاذية للعراق أو قريبة، من دون أن تخفي أصلها العراقي .
المتابع والمهتمّ بتاريخ التشكّل المجتمعي في العراق – خاصة الحديث منه – سيلاحظ الفرادة الإجتماعية لذلك المصطلح ،إذ في الوقت الذي يمتلئ فيه الواقع العراقي بآلاف من (الكونات) وعشرات من العركات ، فأن مصطلح ( الحرب الأهلية ) لم ترد مرّة في تاريخ العراق منذ تشكّله السياسي الحديث ، وبالتالي لم يتم تداولها كإحتمال ممكن الوقوع ، إلا في الأعوام التي تلت سقوط نظام صدام حسين ، لتتراجع من ثم بشكل ملفت في السنوات الأخيرة ، أما عن الحروب التي كانت تشنّ ضد المكونات العراقية ، فقد إتخذت طابعاً سياسياً منذ البداية ، حيث كانت السلطة طرفاً فيها وخيضت ضد متمردين أو ثائرين لأسباب مطلبية ،كإنتفاضات العشائر في جنوب ووسط العراق ، أوللحصول على حقوق قومية ،كما الثورة الكردية في الشمال – الخ .
لابد ان ذلك يعود في جزئه الأهم ، إلى ان المجتمع العراقي لم يشهد حروباً أهلية بين مكوناته ، ولم تتطور فيه أية ( عركة ) إلى مثل ذلك النوع من الحروب ، رغم ان الذاكرة المجتمعية تمتلىء بعركات وقعت بين العشائر والقبائل ذهب ضحيتها عشرات من القتلى والجرحى .
لقد كانت الغالبية العظمى من تلك العركات تقع بين قبائل متجاورة ، وبهدف الحصول على أراض أو مراع او أماكن صيد أو ماشابه ، لذا فهي أشبه بما كان معروفاً عند القبائل العربية قبل الإسلام ،مع فارق ان تلك العركات ، لم تكن تتخذ طابع الغزو المنظّم أو المنتظم ، وان تشابهت النتائج ، حيث تعمد العشيرة أو القبيلة الرابحة ، الى مصادرة الأرض قيد النزاع ، أو سوق الماشية وماشابه ، لتصبح من أملاك الطرف المنتصر ، لكن مثل هذه الحالة غالباً ماتكون مؤقتة، إذ طالما تبادلت القبائل واقع الهزيمة والإنتصار ، ذلك ما أدّى الى نوع من التوازن نتيجة لعدم قدرة جهة ما ، على الغاء الجهة المقابلة أو الحاق هزيمة ساحقة بها ، فكانت المحصلة ان تباعدت العركات زمنياً وندرت وقوعاً ، بعد لجوء المتعاركين الى هدنة مفروضة ، أعقبت أو سبقت صلحاً متوازناً ، غالباً مايكون طويل الأمد للحيثية أعلاه ( التوازن في القوى ) .
وهناك العديد من الأمثلة على تلك العركات ،يذكر منها ما وقع في العمارة بين قبيلتي آل ازيرج بقيادة شيخ مشايخهم (نكال ) وآل بزون بقيادة شيخهم (عبد الكريم ) في ثلاثينات القرن المنصرم ، كذلك العركات شبه المتواصلة بين قبيلتي آل بو محمد وآل إزيرج – خاصة في العهد الملكي حيث شيوع نظام الإقطاع – وكان أشهرها ماسميت بعركة صيهود نسبة الى شيخ مشايخ آل بو محمد في ا لعشرينات من القرن ذاته .
مايعنينا في هذا المجال القول ان طبيعة المجتمع العراقي ، كانت أنموذجاً لما يُعرف بقانون (وحدة وصراع الأضداد ) الذي حكم مساراته الطبيعية ، لذا جاءت قواميس العراق المجتمعية ، لتنحت كلمات واشتقاقت تعبّر عن حقيقة تكوّنه الذي انطبع في المخيال الشعبي ووضع مراتب للخصومات والنزاعات التي كانت تدور فيه ، إبتداءاً من المشاجرة بإعتبارها فعلاً فردياً ، مروراً بالكونة والتكاون ، وصولاً الى العركة – كما سبقت الإشارة – .
الملفت ان الحديث عن المكاونة أو الكونة أو الكاينة ، في الوقت الذي تشير فيه الى حادثة معينة وصلت فيها الخصومة مرحلة السباب أو التضارب بواسطة أعضاء الجسم ، فإنها تفتح في ذات الوقت ، إمكانية الصلح اللاحق ،الذي قد يتحول الى صداقة وتعاون بين المتكاونين .
المكاونة هنا تأخذ منحى إيجابياً ،حيث ان كلا الطرفين قد وضع في الإعتبار مجالات الصلح اللاحق وما قد ينتج عنه ، وهنا تعود المفردة الى اشتقاقاتها اللغوية من فعل التكونّ ، أي إجتماع أكثر من مكوّن على شىء مشترك ، ليشكّلا معاً نتاجاً يتجاوز ماهو سلبي في المكاونة ، ليصبح ذلك الحدث ، بمثابة حيوية إجتماعية تقود الى رؤية المشترك بعد ان إستنفدت المكاونة ماهو مختلف عليه وفق معادلة يمكن صياغتها كالآتي : مكاونة على اختلاف – مصالحة باتفاق .
لقد جُسدت تلك المعادلة في الإتفاقات اللاحقة التي إنبثقت على أثرها حكومة المالكي الثانية بعد سلسلة من ( المكاونات ) تواصلت لأشهر بين الأطراف السياسية ، وبالتالي فتصريح علاوي عن إستعداده ليكاون ، كان يذهب الى الهدف ذاته ، وان لم يكن يدرك ذلك أو يعنيه .
انها المرّة الأولى التي تأخذ فيها المكاونة موقعها في السياسة، لتصبح جزءاً متتماً للحراك السياسي ، بدل ان تكون فعلاً حصرياً للعراك الإجتماعي .
(1) قد يطلق على بعض الثورات مصطلح الحرب ( حرب الإستقلال أو التحرير إذا كانت ضد مستعمر أو من هو في حكمه، كالحكّام الجائرين أوماشابه ) لكن ذلك الوصف يقتصر على القائمين بالثورة أو من يؤيدهم ، أما الطرف الآخر – سلطة مهيمنة أو محتلّة – فيطلق عليها تسميات مختلفة ،كالتمرد أو العصيان أو الأحداث – الخ ، لكنه لايمنحها صفة الحرب ،ولايعتبر أسرى القائمين بها في عداد ( أسرى حرب ) لأنهم لاينتمون الى قوى نظامية في دولة يحملون شاراتها وعلمها ، كما تنصّ القوانين الدولية المعاصرة – أو أعراف الحرب القديمة – لذا قد يحكمون بالصلب أو الإعدام باعتبارهم متمردين أو مجرمين ، وليسوا جنوداً .
(2) النار والحرب صنوان متلازمان حتى في حروب السيف والرمح والقوس ، وذلك للحرائق التي غالباً ماترافقها ، كإحراق المدن والقرى أو قذفها بالمنجنيقات – الخ – لذا يقال: ( إستعرت الحرب، أو شبّ إوارها) .