17 نوفمبر، 2024 8:39 م
Search
Close this search box.

العراق الجديد … سطور لا أنصح بقراءتها !

العراق الجديد … سطور لا أنصح بقراءتها !

صديقي حمدي النوري، رجل تربوي من مدينة الكوت .. معرفتي به تمتد الى نحو 50 عاما، في السنوات العشر الاخيرة، ندرت لقاءاتنا بسبب الظروف المعروفة .. واتذكر انه، في العام 2005 زارني، صحبة ابنه الوسيم، رياضي الجسم، الشاب “سعدون” … كان بعمر العشرين .. صديقي النوري، كان فرحاً بأبنه حد التباهي .. والحق معه، حيث كان من الاوائل في كليته الطبية، وبعد يومين من الضيافة، عاد وابنه الى مدينتهم .. الكوت.

 

انقطع الاتصال، سوى من مكالمات هاتفية في المناسبات .. وحين كنتُ الحّ في مكالمته، اجد في صوته حشرجة اقرب الى حزن، يحسه قلبي، قبل اذناي، لكني كنتُ اغض النظر عن ذلك، عازيا السبب الى ظروف واسباب ربما شخصية.
امس، طرق باب مكتبي (ابو سعدون) صديق العمر حمدي النوري، فتحتُ الباب .. كان لقاءً امتزج فيه الفرح بالحزن .. لكن مساحة الحزن، كانت اوسع مدى من فرح اللقاء .. كان معه هيكل عظمي يمشي على عكازتين .. قال، ان ” سعدون ” رغب بالسلام عليك، بعد ان انهينا معاملة السفر الى الخارج لغرض العلاج .. يا ألهي … “سعدون” خريج كلية الطب، الرياضي، الجميل يصبح كومة من عظام مكسوة برقائق من لحم اصفر.. عينان غائرتان… اسنان بلا لون ..ووزن لا يتعدى الـ 27 كيلو!.

 
لم اتمالك نفسي، وجدتُ دموعي تنهمر.. وصوت بكاء ” النوري” يُسمع من على بعد .. ” سعدون ” بلا احساس .. واقف بيننا، ولا ادري ما يقول في داخله .. كان مجرد عود شجرة، توشحت بملابس اطفال .. وبعد لأي .. جلسنا وبقي ” سعدون” واقفا، ساندا جسده على الحائط، فهو لا يقوى على الجلوس، بسبب هشاشة عظامه
احك لي يا ” ابو سعدون” .. كيف وصل الحال الى ما أراه .. تنهد بحزن، ولوعة .. و قال: انها حكاية، طويلة، غريبة، وربما هناك المئات من امثال سعدون .. ثم بدأ بسرد حكاية مأساة سعدون واسرته وملخصها ان ابنه اصيب بداء فقدان الشهية للطعام، وبدأ ينفر من الاكل، ويتقيأ حال مشاهدته الطعام … بات يكره اي نوع من الاكلات التي كان يحبها .. ثم اخذ يرفض تناول اي انواع من الدواء … عاش سنواته الاخيرة على (المغذي) فقط.
كيف حدث ذلك؟ ما السبب؟

 

ـــ قال الاب المكلوم: لقد اصيب “سعدون” بالوسواس من الطعام، حين شاهد الاخبار التي تبثها وسائل الاعلام، عن دخول اطنان من الاغذية الفاسدة الى السوق المحلية، واكتشاف عصابات من بائعي لحوم الحمير، بعد ثرمها، ودخول اطنان من الادوية المنتهية الصلاحية الى العراق … عرضناه على الاطباء الاختصاص دون نتيجة .. كما لم تفد معه كل محاولاتنا في ردعه عن هذا الوسواس وكره الطعام، ورغم قيامنا بنحر الخراف والدجاج امامه، لكنه بقي على حاله .. صيام دائم، وشرود وعزلة ..

وترك عيادته الطبية.
ولولا ثقتي بأبي سعدون، وما شاهدته من حالة ابنه، ما كنت اصدق .. لكني حين اتذكر تقارير ما تبثه القنوات التلفزيونية والاذاعية والصحفية من حالات اكتشاف شاحنات محملة باللحوم والاسماك والاغذية المتعفنة، على الحدود، ومثلها اطنان من الاوية الفاسدة، المعدة للتداول في المجتمع .. صدقت ..وتيقنت ان حالة ” سعدون ” لم تكن هي الوحيدة، وربما هناك مئات من امثالها .. يا رب سترك من اولاد الحرام، بائعي الموت البطيء الى بطوننا.

 

اعانك الرحمن عزيزي “سعدون”، فأنت ضحية عديمي الضمير ..وما أكثرهم!

 

أحدث المقالات