في قلب الأزمة تكمن مشكلة شح المياه التي تغذي شط العرب، الشريان الحيوي للمحافظة. انخفاض الإطلاقات المائية من نهري دجلة والفرات، اللذين يتدفقان من تركيا وإيران، يفتح الباب على مصراعيه لزحف “اللسان الملحي” من الخليج العربي. هذا الزحف ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو كارثة بيئية واقتصادية تلوث المياه العذبة وتدمر الأراضي الزراعية، لتتحول مياه الشرب إلى مصدر للمرض بدلاً من الحياة. يضاف إلى ذلك التلوث المزمن الناتج عن مياه الصرف الصحي والصناعي التي تلقى في الأنهر، لتتحول مجاري المياه إلى مصبات للنفايات، مما يزيد الطين بلة.
لا يقتصر الأمر على العوامل الخارجية، فالإدارة الداخلية للملف المائي في البصرة تعاني من قصور كبير. البنى التحتية للمياه، من محطات تحلية وشبكات توزيع، مهترئة وقديمة، ولم تخضع للصيانة والتطوير اللازمين منذ عقود. تهدر كميات هائلة من المياه نتيجة هذه الشبكات المتصدعة، وما يصل للمواطنين يكون غالباً ملوثاً وغير صالح للاستخدام. مشاريع التحلية، التي يُنظر إليها كحلول استراتيجية، تسير بخطى بطيئة ومتعثرة، وتواجه عقبات التمويل والتنفيذ، ليبقى حلم المياه النظيفة بعيد المنال. الحديث عن سوء الإدارة والفساد يتردد صداه في كل زاوية، حيث تُتهم الجهات المسؤولة بعدم الجدية في معالجة الأزمة، وغياب التخطيط السليم، مما يؤدي إلى تضييع الفرص وتفاقم الأوضاع.
وعلى الصعيد الخارجي، يبدو المشهد أكثر قتامة. سياسات دول المنبع، تركيا وإيران، في بناء السدود والمشاريع المائية على نهري دجلة والفرات، تقلص بشكل كبير من حصة العراق المائية. ورغم المحاولات الدبلوماسية العراقية، إلا أنها لم تنجح في إرساء اتفاقيات ملزمة تضمن حقوق العراق المائية بشكل عادل ودائم. ففقدان الدبلوماسية الفاعلة يجعل العراق رهينة لقرارات دول المنبع، مما يزيد من معاناة البصرة بشكل خاص. ضعف التنسيق الحكومي، سواء على المستوى المحلي أو المركزي، يفاقم من هذا الضعف الدبلوماسي، ويحول دون توحيد الجهود لمواجهة هذا التحدي المصيري.
في خضم هذه الأزمة المزدوجة، يواجه مواطنو البصرة واقعاً يومياً من المعاناة. فالصراع من أجل الحصول على مياه صالحة للشرب أصبح جزءاً من حياتهم اليومية، مع ما يترتب على ذلك من أعباء صحية واقتصادية واجتماعية. تتطلب هذه الأزمة حلولاً جذرية وشاملة، تبدأ بإصلاح البنى التحتية للمياه، والاستثمار في مشاريع التحلية والمعالجة، وتفعيل الإدارة الفعالة للموارد المائية على المستوى الوطني. ولكن الأهم من كل ذلك، هو تفعيل دبلوماسية مائية قوية وناجعة، قادرة على حماية حقوق العراق المائية مع دول الجوار، وتدويل القضية لجذب الدعم الدولي اللازم. فالبصرة تستحق أن تروى، وأن تعود إليها الحياة التي سلبها شح المياه وفشل الإدارة.