تتنوّع أساليب وأدوات الجرائم في عالمنا (المُتحضّر والمُخيف)، فبعد أن كانت الأدوات والأساليب الجُرميّة في الأزمنة الغابرة بسيطة ومباشرة وواضحة الأركان صرنا اليوم بمواجهة جملة من الجرائم المُتداخلة، وربّما، العلنيّة ولكنّها مدروسة ومخطّط لها بعناية تَعجز عن كشفها أقوى أجهزة مباحث الدول المتقدّمة!
والمجتمع العراقيّ لا يختلف عن المجتمعات البشريّة الأخرى في وقوع الجرائم العاديّة والدقيقة، ولوحظ تنامي مؤشرات معدّلات الجرائم بعد العام 2003 بدرجة لا يُمكن تجاهلها.
ولقد أذهلتنا الإحصائيات شُبه الرسميّة التي ذكرها الخبير الحقوقيّ والمفتّش السابق بوزارة الداخليّة العراقيّة (جمال الأسدي) السبت الماضي، والتي أشار فيها للارتفاع المُذهل لمعدّلات جرائم القتل، وكشف بأنّ” الجهات المُختصّة أحصت نحو (5300) جريمة قتل قبل نهاية العام 2022، وبنسبة سنويّة تتجاوز 11.5 بالمئة لكلّ مئة ألف نسمة، وهي النسبة الأعلى مقارنة بالدول العربيّة وإيران وتركيا”!
ونشر الأسدي تسلسلاً زمنيًّا لجرائم القتل منذ العام 2015، وكانت الحصيلة:” (4300) حالة قتل في العام 2015، و(4400) ضحيّة في العام 2016، و(4600) ضحيّة في عامي 2017 و2018، و(4180) ضحيّة في العام 2019، و (4700) ضحيّة في العام 2020، و(5000) ضحيّة في العام 2021، و(5300) حالة قتل قبل نهاية العام 2022″.
وعند المُقارنة بين الإحصائيات الرسميّة (المُعلنة والمُتواضعة) وكلام المفتّش الأسدي شُبه الرسميّ والمُدْهِش، نجد البوْن الشاسع بينهما، ونلمس بوضوح بأنّ هذه المسألة المجتمعيّة والرسميّة المُرعبة بحاجة لإعادة النظر والتفحص نتيجة الخلل الكبير بين المُعلن والمخفيّ في إحصائيات جرائم القتل الرسميّة السابقة.
وهذه الإحصائيات تتعلّق بجرائم القتل لثمان سنوات حصرًا، ولا شكّ بأنّ عموم جرائم القتل في العراق أكثر من مليون ضحيّة بعد العام 2003.
وسبق للمتحدّث باسم وزارة الداخليّة خالد المهنا إعلانه بأنّ “حوادث القتل المُسجّلة لدى الوزارة (1077) حالة للعام 2021، والمكتشف منها (660) حالة”، بينما يُشير كلام (الأسدي) عبر تويتر، بأنّ الضحايا هم خمسة آلاف ضحيّة!
وهذا يعني أنّ الإحصائية شُبه الرسميّة تَعْدِل خمسة أضعاف الإحصائية الرسميّة تقريبًا، ومؤكّد بأنّ هذا الخلل والتدليس ينطبِق على إحصائيات السنوات السابقة!
ثمّ هل تتعمّد وزارة الداخليّة التقليل من حجم وأهوال إحصائيات الجرائم المختلفة لغايات سياسيّة ومجتمعيّة، أم أنّنا أمام خُطّة لتضليل الرأي العامّ وتزوير التاريخ، وبيان (نجاح) خُطَط محاربة الجريمة؟
وعلى العموم لا توجد إحصائيات حكوميّة واضحة لبقيّة الجرائم المتنوّعة ومنها جرائم الإرهاب الرسميّ وغير الرسميّ، والجرائم الماليّة والإداريّة والإلكترونيّة، وغسيل الأموال، والرشوة، والاختفاء القسريّ وغيرها!
ويمكن إرجاع انتشار جرائم القتل للأسباب الآتية:
– الفهم الخاطئ للديمقراطيّة ولحالة العراق (الجديد) وكأنّ مفهوم الديمقراطيّة في عقول هؤلاء القتلة والمجرمين هو اللا قانون والفوضى.
– التناحر السياسيّ الذي دفع القوى الشرّيرة لتصفية خصومها من السياسيّين والصحفيّين والناشطين، وأيضًا انتشار التحارب الطائفيّ والمذهبيّ ضمن العمليّة السياسيّة.
– هشاشة العدالة القضائيّة الرسميّة جعلت بعض الناس يذهبون لتحصيل (حقوقهم) بعيدًا عن الطرق القانونيّة، الرسميّة والسِلْميّة.
– بروز النفوذ العشائريّ أمام المؤسّسات الحكوميّة، وصارت العشيرة، غالبًا، الأداة المجتمعيّة لتحصيل الحقوق، وحتّى الاعتداء على الآخرين!
– بروز التفكّك الأسريّ بشكل كبير نتيجة الفقر، والبطالة، والمخدّرات، وهذه الأسقام تسبّبت بتنامي الآفات المجتمعيّة، وتزايد معدّلات الانتحار، وقد بلغ أعداد المنتحرين منذ منتصف العام 2022 ولنهاية العام 2015 (3844) ضحيّة!
ولم أقف على إحصائيات رسميّة تتعلّق بالانتحار قبل العام 2015، وهذه الأعداد مُبعدة عن إحصائيات جرائم القتل!
هذه الأسباب وغيرها نشرت فوضى القتل، ولكن، ربّما، هنالك مَنْ يتساءل لماذا يحدث كلّ هذا الخراب في العراق؟
لا شكّ أنّ العراقيّين ليسوا نواة لمجتمع هَمَجيّ مُتخلّف بل هم سُلالة لأمّة عُرِفت، ومنذ القدم، بالعلم والعمل والحضارة، وقد شارك كثير من المُصلحين والمُثقّفين العراقيّين في استحداث المدارس والجامعات والجمعيّات، وتأسيس المطابع والصحف خدمة للمجتمع والإنسان!
ومع هذا التراث العلميّ والفكريّ والعشائريّ المُلتزم بالأصالة والنقاء لا ندري كيف وصل حال العراق لهذه الدركات المُرعبة، وربّما يعود السبب الأبرز للسياسات الناشرة للجهل المجتمعيّ المُركّب للتحكُّم بالبلاد!
وفي ظلّ هذا الخراب العامّ بأغلب القطاعات، وكما توقّعنا بمقال صحيفة عربي 21 الغرّاء الأسبوع الماضي، مُرِّرت حكومة محمد السوداني، أمس الخميس، وفقًا لمنهجيّة التوافقات السياسيّة!
فهل سيتمكن السوداني من ضبط البوصلة العامّة، أم أنّ الربكة السياسيّة والأمنيّة ستُغذي العوامل الداعمة للرُعب في الغابة العراقيّة المليئة بالقتل والإرهاب والخوف؟
معالجة الجرائم لا تكون بالإعلانات الهزيلة والدعوات والخطب السياسيّة المُنافية للواقع الذي يَعجّ بالتمرّد وحالة اللا دولة واللا قانون، وكأنّ الناس في غابة نائية يأكل القوي فيها حقوق مَنْ لا يَمْلك سندًا من عشيرة كبيرة أو شخصيّة مُتنفّذة، أو حزب سياسيّ، أو قوّة مليشياويّة!
إنّ بناء الإنسان والمجتمع من أهم أدوات مكافحة الجرائم المنظّمة والعاديّة ومعالجة التفكك الأسريّ والمجتمعيّ، وهذا هو الدور الجوهريّ والمحوريّ للدولة، ولكن أين الدولة التي تُنفّذ هذه المهمّة الوطنيّة والإنسانيّة المُعقّدة؟
dr_jasemj67@