في مثل هذا اليوم قبل 26 عام أعلن قائد الثورة الايرانية أية الله الخميني موافقته على قرار مجلس الأمن المرقم 589 والقاضي بوقف اطلاق النار بين العراق وايران ليسدل الستار على واحدة من أطول الحروب في القرن العشرين ( 8 سنوات) وأكثرها تكلفة اقتصادية وأغزرها دموية في الشرق الأوسط منذ العام 1945 وكان هذا القبول الايراني بوقف اطلاق النار بمثابة دلالة نصر للقيادة السياسية العراقية أنذاك خصوصا أنه جاء بعد تقدم ميداني واضح للجيش العراقي واستعادته لكامل التراب العراقي .
ولسنا هنا لمناقشة أسباب الحرب ودوافعها وخلفيتها التاريخية ومن كان الطرف البادئ بها في ظل تبادل الأتهامات بين الطرفين وتفاصيل المواجهة لكن مايهمنا في هذه الذكرى هو ثلاثة أمور أساسية:
1- ان الجمهورية الايرانية كانت هي من تقف وراء اطالة أمد الحرب لرفضها قرار وقف اطلاق النار لمدة 6 سنوات متتالية (صدر القرار 589 في تموز/ يوليو عام 1982وحمل العراق مسئولية البدء في الحرب) وهو مايفسر بتحول الأستراتيجية الايرانية أثناء الحرب من صد الغزو العراقي لايران الى التطبيق الفعلي لأحد أهم أهداف الثورة الايرانية وهو تصديرها من خلال اسقاط نظام الحكم في بغداد وتنصيب نظام حكم اسلامي موالي طبقا لمقولة الطريق الى القدس يمر عبر كربلاء !!! وهو ماترجمته مقولة السيد الخميني ذاته يوم وافق على وقف اطلاق النار واصفا ذلك الأمر( بتجرع كأس من السم الزعاف).
2- ظلت أثار هذه الحرب راسخة في الوجدان الشعبي في البلدين الى يومنا هذا (خصوصا لدى الجانب الايراني الرسمي والشعبي ) فلازلت أتذكر حادثة وقعت لأحدى أقاربي التي ذهبت بعد سقوط بغداد مباشرة لزيارة الامام الرضا (ع) في مشهد عندما كادت أمراة ايرانية مسنة أن تفترسها بنظراتها فلما
سألتها عن سبب هذه النظرات اللئيمة أجابتها بأنها لن تنسى بأنكم (أي العراقيين) قتلتم أبنائنا ،مثلت هذه الحادثة البسيطة مقياسا لحجم الغضب والألم الشعبي في ايران من جراء رواسب هذه الحرب ، فكان سقوط بغداد عام 2003 الفرصة الذهبية لايران لتحقيق مافشلت فيه عسكريا ابتداءا بتصفية الضباط والطياريين المشاركين في تلك الحرب وانتهاءا بالهيمنة الكاملة على العراق سياسيا وأمنيا وأقتصاديا ودينيا عن طريق ترسيخ حكم الاسلام السياسي الشيعي وتدريب وتسليح وتمويل الميليشيات وأستخدام العراق للتمويه على العقوبات الدولية والألتفاف عليها ونشر نظرية ولاية الفقيه خصوصا بين أوساط الشباب العراقي الشيعي وأخيرا وليس أخرا المشاركة الفاعلة في أختيار رئيس وزراء العراق بعد الانتخابات الأخيرة (وقبلها ب2010) ومارافقها من جدل حول موضوع الولاية الثالثة للسيد المالكي واتضاح حقيقة استحالة قدرة التحالف الوطني على ترشيح شخصية غير مرضي عنها في طهران لشغل منصب رئيس الوزراء.
3- وهو أهم هذه الأمور على الأطلاق وهو الفرق الشاسع في ثقافة الانتماء الوطني بين اسلاميي ايران ونظرائهم العراقيين (شيعة وسنة) فبينما ينظر الى هذه الحرب في ايران على أنها حرب وطنية لصد الغزو الأجنبي ويعتبر قادتها وضحاياها أبطال قوميون (وهو أمر ما كان ليختلف في ايران حتى لو تغير النظام الحاكم ) ، تحول شهداء العراق في الحرب الى ضحايا بعد الغزو الامريكي وتولي الأحزاب الدينية الشيعية للحكم وحرموا من كافة مستحقاتهم وأعتبر قتالهم دفاعا عن النظام وليس الوطن وجريمة لاتغتفر وحمل النظام السابق مسئولية قتلهم لكونه هو البادئ في الحرب !!! (اذا ما أعملنا هذا المعيار فيجب تحميل الحكومة الحالية مسئولية مقتل مئات الاف من العراقيين وتبرئة الارهابيين وهو أمر يرفضه تماما الاسلاميون الشيعة) وهنا لابد لنا من وقفة ومقارنة بين سلوك الاسلام السياسي الشيعي الايراني ونظيره العراقي فبينما حافظ الملالي على كافة منجزات نظام الشاه وقاموا بالبناء عليها بما يخدم مصالح الأمة الايرانية وفي طليعتها البرنامج النووي وتجنبوا الصدام في الوقت ذاته مع القومية الفارسية (أساس نظام الحكم البهلوي) وتمكنوا من خلق مزيج فريد بين القومية الفارسية والمذهب الشيعي الأثنا عشري ، سعى الاسلاميون الشيعة في العراق الى الطلاق البائن مع كل الأنظمة السابقة وانكار أي دور لها في بناء العراق ومحاولة اقتلاع العراق من جذوره العربية والسعي لتأسيس دولة جديدة لا علاقة لها بما سبقها ، وفي الوقت الذي أستخدم الملالي المذهب الأثنا عشري الذي يؤمن به 89% من الايرانيين كوسيلة لتوحيد كافة الشعوب الايرانية (الفرس والكرد والبلوش والعرب والتركمان) أستخدمت الأحزاب الاسلامية الشيعية العراقية المذهب وسيلة لنشر الطائفية ولزرع بذور التفرقة بين أبناء الدين والوطن الواحد . فيما ردت قوى الاسلام السياسي السني العراقي على هذه الاجراءات بتزوير التاريخ وقلب الحقائق سعيا وراء مكاسب فئوية ضيقة من خلال الترويج للحرب بصورة طائفية وتصويرها على أنها جزء من الصراع السني –
الشيعي في المنطقة مع ان هذه الحرب شأنها شأن أغلب صراعات ونزاعات هذه المنطقة سياسية بأمتياز ومن ثم يتم اسباغ الطابع الديني أو المذهبي عليها لغرض استثارة البسطاء من الناس وان كانت هذه الحرب تعتبر جزء لايتجزء من الصراع العربي – الفارسي القائم منذ ماقبل الاسلام .
ان الخلاف مع أي نظام حاكم أو أيدولوجية سياسية لايبرر مطلقا الخروج عن الصف الوطني والأصطفاف مع العدو الخارجي كما أنه لايعتبر حجة لتزوير التاريخ وهنا ينبغي التفريق بين القضايا السياسية الداخلية (ذات الطابع الحزبي والعرقي والمذهبي ) وقضايا الأمن القومي (ذات الطابع الوطني الصرف) فلا يمكن الأصطفاف مع اسرائيل في حروبها ضد غزة ولبنان لمجرد الخصومة مع الاخوان المسلمين وولاية الفقيه (الأيدولوجية السياسية الدينية لكل من حركة حماس وحزب الله) ، ولايمكن أن نقف مع ايران في الحرب ضد وطننا العراقي لمجرد معارضتنا للنظام الحاكم أنذاك في بغداد ، فرغم كل مساوئ الحكم الاخواني لمصر الا انهم حرصوا على الأحتفاء بذكرى حرب أكتوبر 1973 من خلال اقامة حفل كبير في استاد القاهرة في العام 2012 وهي حرب لاناقة للاخوان فيها ولاجمل وكانوا على عداء دائم ومستمر مع قائدها الرئيس السادات ( تعمدوا اهانته من خلال استضافة شخصيات متهمة بالمشاركة في عملية اغتياله في المنصة الرئيسية بالاستاد ) لكن مقتضيات الوطنية المصرية هي من فرضت عليهم ذلك على الأقل ظاهريا ، ورغم كل معاناة الروس من الحكم الستاليني الحديدي الا انهم لايزالون يحتفلون في 9 ايار/مايو من كل عام بذكرى الأنتصار على المانيا النازية في الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية ) لادراكهم بأنها كانت حربا للدفاع عن روسيا أرضا وشعبا وليس عن الحزب الشيوعي وزعيمه ستالين . ومن هنا تكمن مضمون رسالتنا لتيار الاسلام السياسي الشيعي في العراق وجمهوره الذي يعتبر ايران القدوة في كل شي ماعدا ثقافة الانتماء الوطني ، فالاسلاميون الشيعة قد أجادوا العمل بمبدأ (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما) بمفهومها الجاهلي في انكارهم أو تبريرهم للانتهاكات التي تقوم بها الميليشيات مقابل اطلاق العنان في الهجوم على المتطرفين السنة في سبيل الحفاظ على وحدة المذهب !! وهو نهج نأمل بأستمراره أيضا على الساحة الوطنية توحيدا للصف الوطني في مواجهة الأخطار الخارجية ، وهم مطالبين قبل غيرهم بأستلهام التراث الوطني لشيعة العراق ومنها تصدي المرجعية الدينية للغزو البريطاني 1914 رغم ظلم الدولة العثمانية للشيعة لادراكها بأن المستهدف هو الاسلام وهو تراث تم تغييبه قسرا مقابل تصاعد نزوة السلطة لدى الساسة الشيعة .
يجب علينا أن ندرك بأن الأوطان لاتقدر بثمن وأنها أسمى من أي انتماء حزبي أو عرقي أو ديني أو مذهبي ولعل عدم ادراكنا لهذا الأمر وتغييب الرابطة الوطنية العراقية وتقديم الرابطة المذهبية والعرقية عليها هو ما سيؤدي بنهاية المطاف لطلوع شمس يوم نبكي فيه كالنساء وطنا لم نحافظ عليه كالرجال ،
فالدولة التي لاتثمن جهود أبناءها في الدفاع عنها والأمة التي لاتحترم تضحيات رجالها لاتستحق الوجود .