19 ديسمبر، 2024 1:56 ص

العراق ، بين لفظتي (ٳراك) ، (آيراك) !

العراق ، بين لفظتي (ٳراك) ، (آيراك) !

جمعتني علاقة صداقة مع المهندس في البحرية الملكية البريطانية السيد (باركلي Barkley) ، على ظهر أحدى سفننا التي استأجرناها من المنشأة العامة للموانيء العراقية لحساب البحرية العراقية ، وهو خبير استقدمته الحكومة العراقية مع مجموعة من الخبراء الأنكليز ، بُعيد انتهاء الحرب العراقية الأيرانية ، وفق المشروع العسكري (827(، للعمل مع طاقم عراقي كنتُ من ضمنهم لتنظيف الممرات الملاحية في الخليج العربي ، من مخلفات هذه الحرب لجعلها صالحة أمام الملاحة العالمية .
كان السيد (باركلي) ملتحيا ومن كبار السن ، له الأعتداد النمطي بأنكليزيته ، الا انه لم يكن متعجرفا كبعض زملائه ، بل كان متواضعا ومحترما وفضوليا ، ولا يستخدم الالفاظ البذيئة الشائعة التي لاتخلو منها أي جملة لدى زملائه من الخبراء في تحدّثهم فيما بينهم ، مع كونه متعدد المواهب والخبرات والأهتمامات الى درجة تثير العجب ، رغم كونه مهندس كهرباء ، إلا أنه يعرف كل شي عن مختلف أنواع المحركات ، وعن الطائرات ، وعن الملاحة وغيرها من المجالات البعيدة عن أختصاصه ، لكن الخبراء على العموم ، كانوا يتوجسون خيفة كونهم يعملون في منطقة كانت مسرحا للحرب انتهت منذ شهور ، وما زالت مليئة بالألغام البحرية .
في أحد مرات تبديل الطاقم العراقي ، وكنا نهم بتسليم العمل للطاقم الجديد للتمتع بأجازتنا ، كنا نتبادل التحية ، والقبلات المعروفة بين الرجال لدينا ، فأذا بأحدهم ويدعى (أنطون Anton) ، يراقبنا بأستغراب وعينين جاحظتين وفم مفتوح قائلا لي ( هل جميعكم من المنحرفين جنسيا Are you all homosexuals) !؟ ، وأستدرك قائلا (القبلة تكون بين مرأة ورجل ) ! ، ولو ترجمت قوله هذا لجماعتنا ، لرموه في البحر ! .
كان جميع الأنكليز يلفظون كلمة العراق (Iraq) على أنها (إراك) المتعارف عليها ، وكان السيد (باركلي)  يسألني عن أصل (مغامرات ألف ليلة وليلة) ، وعلي بابا ، ومصباح علاء الدين ، والبساط السحري ، وقصص (السندباد) الذي يسمونه (Sinbad) ، وكان يقول ، أن والدته كانت تقص عليه تلك القصص ما قبل النوم وهو طفل ، وهو يعلم أن مصدر هذه الروايات هي بلاد وادي الرافدين (Mesopotamia) ، قال لي مرة بالحرف الواحد (جميع حضارات العالم منها حضارتنا تعود لحضارتكم   All the world’s civilizations , including ours , belong to your civilization) ، لكنه كان يقول بمرارة ، أن الكثير من الأنكليز لا يعرفون أن وادي الرافدين هو العراق حاليا ، بل يعتقدون أنها تركيا أو الهند ! ، ويقول (كنت أتوقع عند نزولي في مطار بغداد ، أني لن أجد سوى الأبل والصحراء والخيم ! ، لكني تفاجأت ببلاد جميلة متطورة ذات حضارة عريقة وأناس مثقفون ومجاملون وشوارع نظيفة ، وعند عودتي الى بريطانيا في أحدى إجازاتي ، قصصت ذلك على أصدقائي وزملائي ، فلم يصدّقوني) !! ، هكذا ضاع وادي الرافدين ، بين كذب الأعلام الغربي ، وضعف أعلامنا العالمي ودبلوماسيتنا .
كان عدد الخبراء بحدود 15 شخص ، أعمارهم تتراوح بين 25- 70 سنة ، لم يكن واحد منهم مصاب بالسكّري (Diabetes) ، أو ارتفاع ضغط الدم (Hypertension) ، ولم يكن واحدا منهم من المدخنين وكانوا جميعهم يقضون أوقات الأستراحة بالهرولة وممارسة الرياضة ، رغم ضيق المكان على ظهر السفينة ، وقراءة الكتب حتى وهم جالسون على مقعد (التواليت) !.
وبعد الغزو الأمريكي ، أكتشفت ان الأمريكان يلفظون اسم بلادنا على أنها (آيراك  I-raq)  ، ولا تكاد تخلو معظم المسلسلات ، هزلية كانت أم جادة ، ولا فلم ، دون أن تُذكر كلمة (أيراك) هذه في سياق هذه الأعمال ، هكذا صرنا مادة دسمة لهوليوود ، وحقل تجارب مجاني وبالتالي دعاية للآلة الحربية الأمريكية ! ، وأقول لو عاد السيد باركلي ، إن كان حيا ، ليرى وضعنا المزري ، لغيّر نظرته ! .

أحدث المقالات

أحدث المقالات