23 ديسمبر، 2024 5:25 م

العراقي متميّز!

العراقي متميّز!

التأريخ الحضاري على مدى العصور بما فيها من تفاعلات وصراعات وتداعيات , يشير إلى التميّز العراقي في السلوك والإتجاه , والتصور والرؤية والتفكير والخيال.
فالعراقي وهو الإنسان الذي توطن بلاد ما بين النهرين منذ فجر السلالات وما قبلها , يؤكد بما تركه من آثار وشواهد على قوة تميزه عن غيره من البشر الموجود في تلك الفترات.
وإذا تأملناه وفقا لمنظار منحنى الإنتشار الطبيعي , فأنه ينحرف نحو اليمين , ويحاول أن يتجاوز المعدل العام في ما يقوم به من إستجابات للتحديات التي يواجهها.
وهذا التميّز قد دفعه إلى التفاعل مع الطين وقصب البردي , والشروع بوضع اللبنات الأولى للحضارات البشرية , وهو الذي أبدع المعابد , والموسيقى والأناشيد والملاحم والكتابة والقوانين والعجلة , وغيرها من أسس الإنطلاق الحضاري المطلق.
ولا يُعرف سرّ دوافع هذا الميل إلى التميّز عند أبناء العراق.
وهو دافع قوي ومشحون بطاقات الأجيال , وبرؤى وتصورات متراكمة ذات تأثيرات قوية في المحيط الذي يكون فيه. ولا يزال مؤثرا في السلوك , داخل الوطن وخارجه , وعلى جميع الأصعدة والمناحي والمستويات.
فالعراقي يميل إلى أن يكون متميّزا!
تلك حقيقة مفروغ منها , لكن أن يكون غير ذلك , فهذا بحاجة إلى وقفة ونظرة عميقة.
يبدو أن التميّز العراقي فقد منافذه وفرصه الإيجابية للتعبير عن حالاته ومعانيه , وبُنيت المصدات والمعوقات والسدود أمام جريانه وتدفقه في أروقة الحياة المتجددة , ومُنعت عنه عناصر التخلّق والإبتكار والإبداع والصيرورة الواضحة الفعّالة  , مما دفعه إلى الأسر في أوعية ضيقة ينضغط فيها وينحبس لحد الإنفجار الصاخب المدوي.
وما عادت أمامه فرصة للتمايز إلا بالإنشغال في موضوعات ذات مفردات أخرى , تعبّر عن النكوص الحضاري وتمت بصلة للماضي.
فالتأريخ يؤكد أن العراقي أول الذين تفاعلوا وفقا لنظام حياةٍ إبتكره , فتطورت فكرته حتى نضجت وترسخت في اللاوعي البشري , وتسيّدت على السلوك والتوجه والنظر , وبقيَ مأخوذا بذلك الميل الروحي والإبداعي , الذي ينقله إلى آفاق ٍ تتجاوز قدرات الجذب الأرضي وإرادة الدوران , لينغرس في جوهر الكون المطلق.
وربما يكمن في حامضه الأميني موروثات جينية , لها تأثيرات خلاقة ووثابة نحو التطلع إلى ما هو مغاير أو متميز , وينبثق عن ذلك سلوك فردي وجماعي , وتترتب عليه صياغات وصيرورات متنامية في الوسط الذي يكون فيه.
ووفقا لذلك , فأن السلوك العراقي يكون ميّالا للإنحراف إلى جهة اليمين في جميع نواحي السلوك , وهذا الميل الكامن فيه قد يتم تفسيره على أنه حالة سلبية , وفي واقع حاله إرادة تميّز محبوسة في بودقة أسرٍ وإخناقٍ وتجريد من طاقاتها الإيجابية , مما يستنهض ما فيها من طاقات الإنتهاء والخمود , بمعنى أن الطاقة المحبوسة المتراكمة المضغوطة تتحول إلى أجيج ملتهب يحيل ذاته إلى رماد.
وهذا ما يحصل في المجتمع وعلى مدى عقود , إنضغط فيها داخل صناديق سياسية كتمت أنفاسه , وخنقته بثاني أوكسيد التداعي والخراب والفساد , الذي أسهم في إصابة وجوده بآفات الوثوب نحو دواعي الإنقراض الحضاري , والإنهاك الجماعي بأسلحة التأزيم والتحجيم والتهديم الفكري والنفسي , والتنكير بالذات والموضوع والغايات والتأريخ والمعنى والمصير والإرادة والقوة والحرية والحياة.
ولكي يتشافى من علله المعاصرة , لابد من منافذ واسعة تستوعب طاقات التميّز الكامنة فيه , وأفضل هذه الوسائل ,  العلم والإبداع والإبتكار والإختراع والصناعة والبناء ,  لتحقيق المستقبل السعيد المطلق الآفاق والتطلعات.
فالعراقي في جوهره متميّز لا غير!
ويمكنه أن يعبّر عن جوهره المتميّز, في وعاء وطني إنساني جامع , يحرر لا يقيّد , الطاقات والقدرات الكامنة في أعماقه , ويمنحها إرادة التفاعل الإبداعي الخلاق مع طاقات الآخرين.
فهل سيصنع هذا الخيار النبيل؟

*متميز, من المَيْز: التمييز بين الأشياء.
تميّز القوم : صاروا في ناحية.
تميّزوا: إنفردوا.