في الغربة، يصبح الوطن مقدساً وشديد الحضور.
الوطن، هذا الذي تلفظه كأننا في صلاة، يزداد سطوعه فينا كلما ابتعد عنا، ويغدو باهتاً ومضمحلاً ونحن فيه لا نكاد نراه.
في الغربة حقاً يولد فينا وطن اكبر من الارض، وطن فضاء نتلذذ به كمعراج روحي، ونوسعه باخلاقنا ليصبح الكون كله.
ان غربة العراقي سواء أكانت عن ارضه ام في ارضه، هي التي جعلت العراق بالنسبة اليه ارضاً لا تشبه أية ارض اخرى.
ان هذه الجغرافية الفردوسية ما كانت لتولد الا من ارض مفقودة، ولو حاولنا رصد نصوص الخيال الفردوس فاننا سنكتشف بالتأكيد تلك الارض الغائبة التي لا تشبه أية ارض اخرى.
ولنتأمل قليلاً الظاهرة الطللية في الشعر الجاهلي، ان قيمة الطلل باعتقادي لا تكمن في شيئيته وزمنيته ولا حتى في ارتباطه بذكريات ثمينة وسعيدة.
ان القيمة الحقيقية للطلل تنبع من كونه مكاناً مفقوداً وبديلاً سرياً للوطن. لهذا كان الطلل دائماً اقرب الى الفردوس منه الى الخربة.
وهكذا، فان العراق ارض كأية ارض اخرى لكنها مفقودة، لكأن الوطن لا يكون الا حين نفقده، لكأنه ليس ثمة وطن الا للغرباء الذين يحملون وطنهم معهم انى راحو.
ولكن، على الرغم من اختزال الوطن الى مجرد جغرافيا في الكلام الوطني العراقي الا انه من السهل ملاحظة تلك الصبغة الفردوسية التي يحرص العراقي دائماً على اظهار وطنه بها، فمصر بالنسبة للمصري هي ام الدنيا، وسوريا بالنسبة للسوري هي ام الدنيا، كل هذه البلاد تحولت منذ زمن ليس ببعيد الى فراديس رغم انها لم تتعرض للفقدان وان دل هذا على شيء فانما يدل على ان ثمة ارضاً ما مفقودة لدى العراقي أياً كان واينما كان.
ان المكان وحده ليس وطناً، فالانسان هو الذي يطور المكان الى وطن، واذا انهار الانسان في زمن ما فأن الوطن نفسه ينهار ويتحول الى طلل او ارض مفقودة تستعاد عن طريق الحلم وتكتسب ملامحه الفردوسية. ولم يعد خافياً الآن ان المجتمع العراقي ينهار، وان مفهوم الوطن لدى ابنائه ينهار هو ايضاً ويتحول الى رماد.
ان مقولة الوطنية والانتماء لم تعد تعني شيئاً، لان الوطن نفسه مفقود ونحن فيه، ولذا فان الانسان العراقي بحاجة الى وطن لكي يكون منتمياً ووطنياً، والوطن المطلوب هنا هو ذلك الوطن الذي ينتمي بشكل كلي الى افراده ويجعلهم منتمين اليه، اذ لا يمكن لي ان انتمي الى وطن غير موجود او وطن لا ينتمي إلي، ويكون الفرد معطلاً في وطنه وواعياً لعملية تعطيله، فأنه لن يكون قادراً على الانتماء لأن الانتماء ليس مجرد شعور داخلي
بل هو فاعلية نفسية وسلوكية في آن. ولذا فان تعطيل الفرد هو قتل لفاعليته التي هي انتماؤه الى الوطن. ان اللامنتمي اذن ليس خائناً بل الوطن هو الخائن، لانه هو الذي افرز لا منتميه، ولنتساءل: ماذا يعني الانتماء الى الوطن؟ أهو انتماء الى واقعه الراهن ام الى مستقبله؟ اهو التزام بكل ما هو قائم ام حلم بوضع افضل؟ أهو انسان بصورة الوطن ام تشكل هو من خلاله؟
وحين يكون الوطن في حالة انهيار وفوضى فكيف ننتمي اليه؟
ان انتماءنا هنا يعني ان نكون ضد راهنية الوطن وواقعه المنهار، والا كان انتماؤنا ضد الوطن نفسه وضد مستقبله.
ان الانتماء في اعمق معانيه، فعل نقدي وليس مصالحة او غزلاً بالواقع، ولكن كيف تتم عملية التعطيل؟ كيف يتحول الانسان الى شيء في المكان لا يفعل بل يفعل به؟
التعطيل قمع اساساً، والقمع ليس بالعصا فقط، ثمة قمع بالتابو، وقمع بالفقر، وقمع بالاهمال، والقمع يحتاج الى جهاز مادي وقيمي لكي يكون فاعلاً، فالسلطة تقمع، والعادات تقمع، والطبقة تقمع، والفكر يقمع… والمواطن في كل الحالات هو المقموع. من هنا تبدأ القطيعة بين المواطن والمقموع والجهة القامعة، ومن هنا يبدأ انهيار المجتمع.
والخطر عندنا، ان كل فرد ينزع الى الحرية خارج الجهاز القيمي القامع، يمكن ان يتعرض للقمع والتعطيل حتى لو كان داخلاً في هموم السلطة السياسية او الاجتماعية او الدينية او الاقتصادية، فالفرد عندنا ليس سوى ممثل للجماعة ولا يحق له ان يمثل نفسه او ان يكون هو.
ان الدولة بصفتها جهازاً قيمياً وسلطوياً هي المسؤول الاول عن التعطيل، ولذا فهي المسؤولة الاولى ايضاً عن اختزال الوطن الى مجرد مكان تهيمن عليه وتديره. ان الوطن بالنسبة للعراقي اليوم، عقار جغرافي، ولذا فان ابرز ملامح هذه الدولة هو الجغرافيا المغلقة التي لا تستوعب ضمنها اي عنصر وافد.
لقد كان العراق حتى اواخر التسعينات يستقبل الهجرات، كما لم تنغلق بعد، اما الآن فقد انغلقت تماماً. هذا الانطواء الجغرافي هو امتداد لانطوائية اعمق على صعيد اجتماعي، فالمجتمع العراقي مثلاً يكبر بتناسله الداخلي ولا يستوعب أية حالة تلاقح خارجية.
والغريب في الامر ان هذا الانطواء يسمح بهجرة الطاقات الخصبة الموجودة في الداخل، وكأنه يخضعها لعملية طرد مركزي وليس هذا الا نتيجة حتمية للتعطيل الذي تتعرض له تلك الطاقات في الوطن بحيث تبدو كأنما هي عبئ عليه.
ان هجرة العقول العراقية ورؤوس الاموال الوطنية… هي شكل من اشكال فقدان الوطن، والاخطر منها تلك الهجرة الاخلاقية التي تطرد العراقي حتى وهو في ارضه نحو منظومة اخلاقية غريبة تجعله يفقد ملامحه ويعيش مستلباً لملامح الآخر.
ان المثقف العراقي هامش عدا كونه مكتوماً، لانه ليس له دور في تشكيل الوطن وادارته ورسم صورته، وصاحب رأس المال هامش ايضاً لانه مهدد بالقرصنة والمضاربة التي غالباً ما تتم بعلم الدولة. كل الطاقات تخضع لعملية طرد مركزي، ثمة افراغ يحدث تحت سمعنا وبصرنا وبأيدينا، اننا نفرغ الوطن من الوطن ونتركه هيكلاً مجروداً في الجغرافية دون التاريخ.
ان الوطن لا يعترف بالجغرافية الا حين يكون مفقوداً ولا يكون كذلك الا اذا كان انسانه مفقوداً ايضاً، وعندئذ فان خيانة الوطن يمكن ان تتم بالانتماء اليه بالذات، عندئذ سيخان الوطن مع ألد اعدائه ،الانحطاط.