العراقي “الرخيص”

العراقي “الرخيص”

شخصياً لا أجد أسوأ شعور ممكن أن يعيشه إنسان من اعتقاد نفسه رخيصاً مقارنةً بغيره، فالإنسان الذي كرمه الله وأعزه وأعلى قدره لا يمكن أن يتعايش مع فكرة كونه “رخيص” أو بلا قيمة. وهذا يا للأسف ما يعيشه المواطن العراقي ويتعزّز يوماً بعد آخر.

فمنذ عقود والإنسان العراقي مضطر لأن يتعايش مع فكرة عدمية قيمته كإنسان على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ففي حرب الخليج الأولى قبل أربعة عقود خلت – ألف العراقي مشهد جثث منتسبي الجيش العراقي وهي عائدة من أرض المعركة حتى بات بعض الجنود يعرّض نفسه لإصابات بليغة -منها بتر اليد أو الأصبع أو حتى القدم- بهدف الخروج من سلك الخدمة العسكرية والنجاة من مطحنة الحرب بعد أن أضحى توقفها حلماً شبه مستحيل.

ولمدة ثمان سنوات عاش العراق المعاناة والألم التي ذاقتها جلّ الأسر العراقية بخسارة قدرت بمليون قتيل عراقي ومئات الآلاف من الأسرى والمفقودين، ثم انتهت الحرب إلى اللا شيء وعاد العراق للعمل مع إيران وفقاً لإتفاقية الجزائر وكأن شيئاً لم يكن.

ثم مالبث العراق أن تنفس وشعر العراقي بالأمان حتى أقتحم الجيش العراقي الكويت ودخلنا في دوامة حربٍ أخرى أكثر قساوة من سابقتها، وبعد بدء العمليات العسكرية -لاسيما الجوية- أضحى العراق بكل مدنه هدفاً لعمليات قصف التحالف الدولي الذي لم يميّز بين مؤسسة عسكرية وأخرى مدنية، ليعيش العراق ظرفاً لم يسبق له أن شاهده لاسيما بعد أن أعادته الحرب عقوداً إلى الوراء جراء الاستهداف المستمر لبنيته التحتية.

ثم عادت الحرب للتوقف بشكل رسمي لكن هذه المرة مع اتفاق دولي غير رسمي بوجوب تغيير النظام السياسي في العراق، الأمر الذي سمح للولايات المتحدة وحلفائها بالقيام بعمليات قصف بين الآونة والأخرى بدعوى عدم إيفاء النظام العراقي بإلتزاماته تجاه الشرعة الدولية.

وما بين العام 1991 ولغاية العام 2003 عاش العراقيون حصاراً خانقاً أجبرهم على بيع الغالي والنفيس من ممتلكاتهم لتأمين لقمة العيش بعد أن أطبق الحصار بفكيه على الأسرة العراقية، وبدأنا نشهد حالات الوفاة بسبب سوء التغذية وفقدان الأدوية الضرورية حتى قيل أن العراق فقد مليون إنسان في هذا العقد الزمني الصعب، وهنا وفي مقابلة مع وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت أكدت أن الهدف الذي كانت تسعى له إدارتها كان يستحق كل هذه التضحيات!

ثم أكتملت سلسلة مغامرات النظام العراقي السابق العسكرية بالاحتلال الأمريكي للعراق والذي أورث العراق أمراضاً لم يألفها وأظهر سلوكيات لم نعهدها على مستوى المجتمع العراقي، فدخل العراق في معترك الطائفية الذي أخذ من أرواح العراقيين ما أخذ حتى باتت الجثث من هذا المكوّن أو ذاك تملأ الشوارع دون قدرة على ضبط الوضع واكتظت ثلاجات الموتى حتى بدأ يلقى بالفائض من الجثث أمام بواباتها في مشهد دموي مرعب، وباتت الإحصائيات اليومية للقتلى من المدنيين ترتفع وتيرتها بشكل مخيف، ولك أن تتخيّل أن تشاهد على طريقك يومياً عشرات الجثث الملقاة على الطرق والتي قد تبقى في مكانها أياماً طوال دون أن يجرؤ أحد على رفعها.

وما ان انتهت أيام المواجهة الطائفية حتى دخلنا معترك المواجهة مع تنظيم داعش الذي اجتاح محافظات عراقية بكاملها وأدخل العراق في دوامة جديدة استمرت زهاء الثلاث سنوات قضى فيها من العراقيين من قضى.

هذه الأحداث التي كابدها المواطن العراقي أصابته بحالة شعورية من عدم الأهمية أو فقدان القيمة، فحياته لا تساوي شيئاً يذكر وليس هناك من وازع قانوني أو أخلاقي يحفظ حياة المواطن العراقي.

أكّد هذا الشعور الحالات المتكررة للتصفية الجسدية التي يتعرّض لها هذا المواطن أو ذاك لا لشيء سوى لرأيٍ أبداه بهذه الشخصية السياسية أو تلك الكتلة السياسية، ثم يلقى القبض على القاتل ليعترف بجرمه ثم يصار إلى إطلاق سراحه بكل سهولة.

وتكرر هذا المشهد عشرات إن لم يكن مئات المرات بصورة زادت من يقين المواطن العراقي بفقدان قيمته وضآلته وأنه الرقم الأسهل في المعادلة العراقية.

ولك أن تتخيّل أن أكثر من (800) مواطن عراقي قضى في أحداث تشرين عام 2019 في وسط العاصمة بغداد فيما أسندت تهمة مقتلهم لما سمّي بـ(الطرف الثالث)، أما من قتل فديّته (10 ملايين) عراقي تدفع لأسرته. وهذا ما تكرر كثيراً في الآونة الأخيرة كما حصل في حادثة حريق الكوت الشهر الماضي.

هذا الواقع في حقيقته لا يقتصر على الجانب الأمني فحسب، بل إن هناك العديد من الجوانب المتعلقة به، وجولة على البرامج المخصصة لبث نبض الشارع العراقي ستكشف لك حجم المعاناة والضغط النفسي الذي يعيشه المواطن العراقي، فمناشدات المواطن وبكاءه، بل وتمزيقه لملابسه في كثير من الأحيان لحاجة مادية أو لمعاملة متوفقة أو للاعتراض على إجراء قانوني أو إداري مشاهد ملازمة لهذه البرامج.

وقريباً كانت حادثة الدكتورة بان في البصرة، والتي قضى مجلس القضاء الأعلى بكونها عملية “انتحار”، شهدنا كيف تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لجثمان الضحية دون أي ضابط أو رقيب، بل وكان الشخص يقلب جثة الضحية مصوراً أماكن الإصابة في جسد المتوفاة بهدوء فيما لم تشر أي جهة قانونية لمحاسبة مسربي تلك اللقطات أو من قام بتصويرها بدون مراعاة لحرمة المتوفي.

متلازمة “فقدان القيمة” كما أسميتها أو “الرخص” التي يكابدها المواطن العراقي قد لا يشعر بها المواطن البسيط ولا يدركها إلا المختص في علم النفس السياسي وقد يعتقدها البعض حالة مبالغ فيها، إلاّ أنني أراها من أخطر الظواهر وأعتقدها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة من اللحظات.

أحدث المقالات

أحدث المقالات