22 ديسمبر، 2024 11:05 م

العراقيّ أبو گاطع… سيّد الدّعابة البارِعة والسُّخرية اللّاذِعة

العراقيّ أبو گاطع… سيّد الدّعابة البارِعة والسُّخرية اللّاذِعة

القبح في مواجهة الجمال
لا أخال أحداً من الذين أدركهم الوعي من جيل ما بعد ثورة 14 تمّوز (يوليو) العام 1958، وخصوصاً من المثقّفين أو القريبين منهم، لم يسمع باسم “أبو گاطع” أو يردِّد “لازِمة” اشتهرت باسمه، وهي عنوان برنامجه الشهير، “إحجيه بصراحة يبوگاطع” (إحكيها)…
فالرجل احتلّ مكانة استثنائيّة ليس في الأدب والصحافة العراقيّة فحسب، بل وعلى الصعيد الشعبيّ، وانشغلت أوساطٌ واسعة من مختلف التيّارات (المُوالاة والمُعارَضة وما بينهما) بما يكتبه وما ينشره في عموده الصحافيّ، ولاسيّما في مطبوعات الحزب الشيوعي في السبعينيّات: مثل مجلّة الثقافة الجديدة، التي كان مدير تحريرها، وجريدة الفكر الجديد (الأسبوعيّة)، وجريدة طريق الشعب(اليوميّة)، وقبل ذلك في أواخر الخمسينيّات ومطلع الستينيّات، كَتَب في عددٍ من الصّحف اليساريّة العراقيّة، لكنّ برنامجه الإذاعي (من إذاعة بغداد) كان الأكثر شهرة، بل إنّ شهرته جاءت من برنامجه.
وارتفع رصيده ليس كصحافي فحسب، بل إنّ دخوله عالَم الرواية، وصدور رباعيّته كان قد وضعه في مكانة مرموقة بين الروائيّين الكبار أمثال “غائب طعمة فرمان”، و”فؤاد التكرلي”، و”محمّد خضير”، و”عبد الرحمن مجيد الربيعي”، وآخرين؛ لكنّ ما تميّز عنهم، هو قدرته في توظيف مخزونه الريفيّ وضخّه في الرواية التي هي في الغالِب مدينيّة، بحيث أصبحت حياة الريف مألوفة لدى قارئ الرواية وهو ابن المدينة في الأغلب الأعمّ.
وكان “أبو جبران” (وهو نجله الأكبر) يطمح أن يصبح روائّياً، وحين دسَّ مخطوطته (الرباعيّة) بيد غائب طعمة فرمان، طالباً منه قراءتها قبل طباعتها، همس بأذنه (أريد أن أكون منكم)، أي من كتّاب الرواية، فالرواية وما تحفل به ظلّت هاجسه حتّى حين يكتب عموده الصحافي، فقد كان يبحث عن حبكة درامية، ومتن وقفل بمثابة خاتمة ليجعل القارىء يفكِّر في نهايات مفتوحة.
كان صدور رباعيّته: الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ، وفلوس حميّد، (العام 1973)، محطّة جديدة لا على مستوى الرواية العراقية فحسب، بل في تقديمٍ روائيٍّ ريفيٍّ يستطيع أن يؤثّر على المدينة ومثقّفيها، وليس كما كان العكس جارياً، فلم يعُد “أبو گاطع” في خطابه أو حكاياته وأقصوصاته، ولاسيّما رباعيّته، يقتصر على مُخاطَبة الفلّاحين والأوساط الشعبية، بل امتدّ ليشمل ما يكتبه عن المدينة بما تحتويه من تيّارات فكرية وثقافية واسعة، سواء من كان معه أم ضدّه، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً حول كتاباته لدرجة أنّها مُنعت فتمّت ملاحقته بتُهم أقلّها “الإعدام” على حدّ تعبيره الساخر، حيث اضطرّ إلى مغادرة العراق نحو المنفى (العام 1976)، مع ملابسات ما حصل له لاحقاً (في براغ)، وهناك قضى بحادث سير في 17 آب (أغسطس) العام 1981.
مرّ 36 عاماً على رحيل “أبو گاطع” “شمران يوسف الياسري”، (أبو جبران) الذي اشتهر بكنيَتِه، كما اشتهرت راويته الشخصيّة الأثيرة المعروفة باسم “خلف الدوّاح”، وهو اسم مستعار لشخص حقيقي، وليس وهميّاً. فاسمه هو “گعود الفرحان”، الذي كنت قد نشرت صورته لأوّل مرّة في كتابي “على ضفاف السخرية الحزينة”، وكان خلف الدوّاح مثل ظلّ “أبو گاطع”، مُلازماً له.
لقد أتقن “أبو گاطع” حرفته وأدرك مدى تأثيرها في كسب الجمهور وإثارة الجدل حول ما يكتب،مبتكراً طُرقاً مباشرة وغير مباشرة للنقد والتّحريض والتّفكير، والهدف هو الوصول إلى القارئ، سواء بتفخيخ حكاياته وأقصوصاته وجُمله أم باستدراجه لدائرة الإيهام. وفي كلّ الأحوال دفعه للتّساؤل والشك،لما تستثيره نصوصه، فتارةً يستفزّ المتلقّي من البداية، وأخرى يرخي له المقدّمة ليوحي له بنهاية مستريحة، لكنّه سرعان ما يُفاجئه قبل الخاتمة بالعودة إلى دائرة السؤال، تلك هي حبكته الدراميّة المتميّزة.
وعلى الرّغم من كونه مثقّفاً أعزل وفرداً “نفراً” -على حدّ تعبيره- وبإمكانات محدودة وشحيحة، إلّا أنّ أسئلته المُشاغِبة كانت تتميّز بإثارة شكوك وارتيابات تفوق تأثيراتها ما تفعله هيئات أو مؤسّسات أحياناً، في ظلّ أساليب الدّعاية والحرب النفسيّة والصراع الإيديولوجي الذي كان سائداً على نحو حادّ في زمانه.
ودليلي على ذلك أنّه اضطرّ لطباعة روايته “الرّباعية”على نفقته الخاصّة، بعد أن امتنعت الجهات الرسمية من طبعها، بزعم عدم استيفائها الشروط الفنّية، لكنّه باع عشرات، وربّما مئات النسخ، حتّى قبل صدورها لدفع ثمنها إلى المطبعة، وقد حجز العديد من الأصدقاء نسخهم قبل أن تُطبَع، ولا أعتقد أنّ كاتباً استطاع أن يفعل ذلك قبله أو بعده. إنّها طريقة “أبو گاطعيّة” بامتياز، له براءة اختراعها.
كان تأثير ما يكتب كبيراً على السلطة ومعارضتها، بل حتّى داخل الحزب الشيوعي نفسه، حيث يجري صراعٌ “مكتوم” بين قيادة “مُسترخِية” وقاعدة “مُستعصيَة”، فقد كان أقرب إلى “بارومتر” يقيس فيه الناس درجة حرارة الجوّ السياسي. وقد نجح في توظيف علوم عديدة لاختيار الوسيلة الأنجع واختبارها، وذلك من خلال عِلم النفس وعِلم الاجتماع وأساليب التغلغل الناعم والحكاية الشعبية ليصل إلى مراده، متحدّياً الجميع أحياناً، بمَن فيهم نفسه، حتّى وإن اقتضى الأمر المُغامرة، باحثاً في كلّ ذلك عن المُغايرة والتميّز والجديد والحقيقة البيضاء.
ولهذا السبب استقطب جمهوراً واسعاً، ناهيك بالقيَم الجماليّة التي حاول إظهارها، كاشفاً لنا عن عمق ودراية ما يجري في المجتمع، خالِقاً أبطالاً هدفهم إسعادنا، على الرّغم ممّا كان يعانيه من ألم، وكما قال غائب طعمة فرمان عنه: “إنّه إنسان ثابت في أرضه، يعرف كلّ شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مذاق ثمارها وملوحة عرق الكدح فيها، يتغنّى بشفافيّة روح، بشجاعة قلب، وحكمة نظرية ومُكتسَبة بما يمثِّل الهيكل الإنساني لحياة ابن الريف”.
والقراءة لا ينبغي أن تكون من باب التمجيد والمُجامَلة، بقدر ما تكون قراءة نقدية منهجية وموضوعية، بما له وما عليه، فضلاً عن إمكانية إفادة القارىء من الأجيال الحالية والقادمة، بالأجواء السياسية والفكرية والثقافية التي كانت سائدة في عهده والتحدّيات والكوابح التي اعترضت طريقه، ودَوره المتميّز على الرّغم من ظروفه الحياتية والمعيشية الصعبة، فلم يتمكّن من إكماله دراسته، وهو ما يطرح أسئلة على الجيل الحالي والأجيال المستقبلية: ترى من أين جاءت موهبته؟ وكيف تمكّن من صقلها؟ ثمّ كيف استطاع إنماء ملكاته وتطوير قدراته؟ بحيث احتلّ هذه المكانة الاستثنائية ملتحقاً بجيل الروّاد الذين سبقوه، ومنتقّلاً من عالَم الصحافة السريع والكثير الحركة إلى فضاء الرواية الذي يحتاج إلى التأمّل والدّقة.
لقد عرف العراق مع “أبو گاطع” لوناً جديداً من ألوان الأدب الساخر الذي برز فيه صاحبه بنتاجه المتنوّع، سواء في حديثه الإذاعي الموجَّه إلى الفلّاحين أو أقصوصاته وحكاياته، حين نقل حديث المَجالس والمَضايف والديوانيّات، ليجعله مادّة للكتابة الصحافية، التي اتّسمت بها مقالاته، بحيث أثّرت فيها شخصيات الريف النائي والمعزول، بيوميات المدينة وأحاديثها وهمومها والجديد فيها، وانتهاء برواياته، وبخاصّة رباعيّته أو رواية “الحمزة الخلف”.
لا أدري إلى أيّ حدٍّ – ونحن نستعيد “أبو گاطع” – يُمكن أن نستذكر الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز صاحب رواية: “قصّة مدينتَين A Tale Of Two Cities”، فقد امتاز أسلوبه هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللّاذِعة، وصوَّر جانباً مهمّاً من حياة الفقراء وحظيَ بشعبيّة لم ينلها مجايلوه.
وإذا كانت السّخرية تميّز أسلوب “أبو گاطع”، فثمّة أحزانٌ كانت تغلّفها على نحو عميق. ربّما وجد “أبو گاطع” فيها بعض التخفيف من قسوة حياتنا ومراراتها وإخفاقاتنا المتكرّرة، فلجأ إلى إضفاء مسحة من التندّر والضحك عليها، حتّى وإنْ كان ضحكاً أقرب إلى البكاء، كما هي حالنا وأوضاعنا. لقد أمطرتنا حكاياته وأقصوصاته بعناقيد لذيذة من السخرية الحزينة، لفتح شهيّتنا على النقد من أجل حياة أكثر يُسراً وأكبر قدرة على الاحتمال والمواءمة.
لقد أدرك “أبو گاطع” أنّ الحزن معتّقٌ في العراق، وهو أصيل ومتجذّر، ويكاد يطبع كلّ شيء، فحتّى فرح العراقيّين وغناؤهم ومناسبتهم المختلفة، كلّها مغلَّفة بالحزن الجميل.
إنّ سخريةً مثل سخرية “أبو گاطع”، وهو يتناول أعقد القضايا وأخطرها، لا بدّ أن تكون سخرية جادّة ومسؤولة، بل هي موقف من الحياة والكون والتطوّر، وقد حاول شمران الياسري أن يُواجِه تعقيدات المجتمع وصراعاته ومشكلاته وهمومه بنَوعٍ من السخرية، لأنّ هذه الأخيرة في نهاية المطاف تُعبِّر عن موقف مقابل لكلّ تلك الإشكاليّات، وهو ما دعا كارل ماركس للقول: “إنّي أقف ممّا هو مضحك موقفاً جادّاً”.
لقد كتب “أبو گاطع” تاريخ الريف العراقي، كجزء من تاريخ الدولة العراقية والمجتمع العراقي، فعالَج ذلك بسخرية ودعابة وتهكّم. كما حاول الكشف عن حياة مطويَّة تقريباً، فصوَّر الواقع بكاميرا بانوراميّة، مُلتقطاً صُوراً تكاد تكون فاضحة عن حقيقة حياة الريف، ولاسيّما وهو يدخل إلى أعمق أعماقه، لأنّه ليس طارئاً عليه أو غريباً عنه، بل هو من صلبه ومن مكوّناته.
وصدق الروائي الروسي مكسيم غوركي حين قال: “التاريخ لا يكتبه المؤرّخون، بل الفنّانون الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان”، فقد كان “أبو گاطع – أبو جبران” هو مؤرِّخ الريف، حيث عكست رباعيّته حياة الفلاّحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل والنساء والعشق والحبّ المحرَّم والظُّلم والقسوة، والعادات والتقاليد الاجتماعية وزيف بعض رجال الدّين وخداعهم. ولولا “أبو گاطع”، لضاع هذا الجزء المهمّ من تاريخ الدولة العراقية، وللدقّة لضاعت إحدى الرؤى التي يُمكنها مع رؤى أخرى تكوين صورة شاملة ومتعدّدة الألوان عن الريف العراقي.
ولأنّ ما كتبه “أبو گاطع” لا يزال راهنيّاً، بل يمثّل جزءاً من حياتنا اليوميّة، فإنّه لا يزال حاضراً بيننا، وأراه باستمرار في المعركة الدائرة في مجتمعاتنا ضدّ التعصّب والتطرّف والغلوّ والطائفية، وهي معركة الحداثة والحرّية وحقوق الإنسان والجمال والانفتاح واستعادة هَيبة الدولة الوطنية ووحدتها، في مواجهة استمرار التخلّف والقمع والإقصاء والقبح والانغلاق والفوضى والميليشيّات.
تلك هي معركة “أبو گاطع”، وهي معركة خارجية ضدّ الهَيمنة ومحاولات فرض الاستتباع والإرهاب بقدر ما هي معركة داخلية ضدّ قوى الظلام والاستبداد، إنّها معركة مع الآخر وفي الوقت نفسه هي معركة مع الذّات أيضاً، (النحن والأنا) لتطهيرها ممّا علق بها من أدران وترهّات وتشويهات. إنّها باختصار معركة الحقيقة والتقدّم، وبالطبع فهي معركة كلّ كاتب حرّ وصاحب فكر مُنفتِح.
“أبو گاطع” الذي رحل قبل أكثر من ثلاثة عقود ونصف من الزمان، لا زال يعيش بيننا، نحدّثه ويحدّثنا، نستمع إلى قهقهاته وإلى أنّاته، ونتحسّس عمق جرحه وألمه من طرف ابتسامته الساخرة.

نشرت في مجلة أفق (مؤسسة الفكر العربي)، العدد 816، الاثنين 11/9/2017