شَعب حَكمَه في نصف قرن مَضى جَلادون مِن كل شَكل ولون، مَرّة جَلاد عَسكري، ومَرّة جَلاد شقاوة وأخيراً ولا أظُنّه آخِراً جَلاد ميليشياوي إسلامَي، والله وحدَه يَعلم كيف سَيَكون جَلاد المُستقبل ومِن أي شَكل ولون. لكن للأسَف لم يَتعَلم هذا الشَعب مِثقال ذرّة مِن تأريخِه الذي مَلأه الجَلادون بالدَم، وظَلّت شَرائِحِه المُختلِفة وفِيّة لهذا الجَلاد أو ذاك رَغم إدّعائِها بَين الحين والآخر رَفضِها لبَعضِهم، في تناقُض غَريب نادِراً ما عَرَفه تأريخ الأمَم والشُعوب التي لطالما مَيّزت بَين حاكِم طَيّب وآخر جَلاد، لكِنه ليسَ بغَريب على شَعب يَعيش التناقُض والإزدواجيّة في هَمَساتِه وأقواله قبل مُمارَساته وأفعالِه كالشَعب العراقي.
يَغضبون على دكتاتورية صَدام ويَلعَنون ذِكراه، فيما يُخلدون دكتاتورية قاسِم ويُألهون ذِكراه. يُهاجمون دكتاتورية صَدام ويُعرّونَها، فيما يُطَمطِمون على دكتاتورية قاسِم ويُبَرّرونَها. يَغضَبون على طَيش صَدام، ويَستلطِفون جُنون عارف. يُعارضون دكتاتورية صَدام، ويَتزلفون لدكتاتورية المالكي ويَرقُصُون على أنغامَها النَشاز. كانوا في زمَن صَدام مُدافِعين أشِدّاء عَن حُقوق الإنسـان حَتى باتوا يُنافِسون الأم تريزا ومانديلا، ولطالما مَلأوا شاشات التِلفزيون وصَفحات الجَرائد بتقارير مُنظّمات حُقوق الإنسان عَن إنتِهاكِها في عَهدِه، أما اليـوم وبَعد أن باتَ أغلبُهُم مِن بَطانة سُوء المالكي ومُستفيداً مِنه، أصبَح الحَديث حالياً عَن الإنتِهاكات كذِباً وباتَت التقارير الدُولية عَنها مُؤامَرة. لذا ليَقل عُشّاق هذا الجَلاد أو ذاك ما يَقولون لأن الحَقيقة ستبقى واحِدة، وهي إن كل مَن ذكرناهُم بلا إستثناء كانوا جَلادين وتأريخُهُم شاهِد على ذلك، الإختلاف بَينَهُم كان فقط بالأسلوب وليسَ الفِكرة، فكل مِنهم مارَسَ الجَلد على طَريقته، إنطِلاقاً مِن وَعيه الشَخصي المَوبوء، ووفق بأساليبه الخاصّة المَريضة.
إن أغلب الرُؤساء الذين حَكموا العراق مُنذ1958 كانوا دكتاتوريين، فلِمَ التَحامُل على هذا والإنحِياز لذاك؟ ولكي لا نَذهَب بَعيداً فإن أغلب رؤساء أحزاب المُعارَضة التي أصبَحَت اليَوم أحزاب سُلطة العراق الجَديد(الديمقراطي) هُم دكتاتوريون ويَرأسون أحزابَهم مُنذ عُقود، فلمَ إنتِقاد هذا والتبرير لِذاك؟ فإما أن يَصمُت المَرء ويَتوَقّف عَن إنتقاد الدكتاتورية وترديد شِعارات العَدل والحُريّة والديمُقراطية، أو أن يَنتقِدَها ويَكون ضِدّها بكل صُوَرها وأشكالِها وفي كل زمان ومَكان، بَعيداً عَن الآيديولوجيا، أو الإنتِمائات القومية والمَذهبية، أو القناعات الإجتِماعية المُتوارَثة التي يُرَدِّدُها البَعض دون تفكير. للأسَف العوامِل الثلاثة آنِفة الذِكر وليسَ التفكير المَنطقي هي التي تتحَكم اليَوم في حُب الناس للزَعيم السياسي وكرهِهِم له، قد نَجد أن آديولوجيّتهم تُبرمِج عُقولهُم بهذا الإتِجاه، أو إن هذا الزَعيم مِن نفس طائِفتِهم أو العَكس، أو إنّهُم ترَبّوا على حُبـّه وكُـرهِه ضِمن مُحيطِ العائِلة والمُجتمَع، دون أن يَشغِـلوا عُقولِهم يَوماً بتقييم شَخصِيّة هذا الزَعيم والدَور الذي لعِبَه في تأريخ بلدِهِ سَلباً أو إيجاباً. الكثيرون يُحِبّون اليَوم قاسِم أو عارف أو صَدام أو المالكي أو يَكرَهونَهم، لا لِشيء سِوى أنّهُم ترَبّوا بمُحيط عائِلي ومُجتمَعي يُحب هذا ويَكرَه ذاك. البَعض الآخر يُحِبّونَهُم أو يَكرَهونَهُم لأنّهُم يَنتَمون إسمِيّاًّ لنفس المَذهَب والطائِفة، كحال بَعض السُنة مَع صَدام والشيعة مَع المالكي. أما البَعض الآخر فيُحِبّونَهُم أو يَكرَهونَهُم لأنَهُم مَحسوبين تأريخيّاً على تيّاراتِ ما تزال آديولوجيّتها تؤطِر قناعاتِهم وتوَجُهاتِهم، كحال الشيوعيين مَع قاسم والبَعثيين مَع صَدام والقوميين مَع عارف.
طبعاً يَبقى العامِل الطائِفي اليوم هو الأبرَز في توجيه بَوصَلة حُب وكره العراقيين لهذا الجَلاد أو ذاك، بَعد أن باتَت الطائِفية تنخُر عُقول الكثير مِنهمُ، فهُم يَستَمرأون الجَلد ويَستعذِبونه ويُؤلهون فاعِله ويَنزل على قلوبهم كالعَسَل إذا كان الجَلاد مِن نفس طائِفتهم أو قومِيّتهم، لكن يَرفضونه ويُشَوّهون فاعِله وتثور حَميّتهُم وتنتفِض غيرَتهُم وتستيقِظ إنسانيّتهُم إذا كان الجَلاد مِن طائِفة أو قومية مُختلفة. سادِيّة بإستِمراء الإضطِهاد والجَلد وتحَمّله مُرتَبطة بطائِفية في قبوله فقط مِن جَلاد يَنتمي لنفس الطائِفة والعِرق،خَلطَة مُشَوّهة لا تَجتمِعُ سِوى بخَلجات النَفس العِراقية التي عُرفَت بغَرابَتِها وتطَرّفِها. لقد تبيّن أن أغلب مَن عارَضوا صَدام وكانوا يَرفضون جَلـدَه لهُم فعَلوا ذلك فقط لأنَه من قوميّة أو طائفة مُختلفة، فهُم حالياً يَقبَلون الجَلد بكل مَمنونيّة ورحابة صَدر وبشَكل أشَد إذلالاً وقسوة مِن جَلاد يَنتَمي لنَفس العِرق والطائِفة. بَعضُهُم كان يَحسَبُه على السُنة وبَعضُهُم كان يَحسَبُه على العَرَب، وهؤلاء وأؤلئك مِنه ومِن أفعاله بَراء فهو لم يَكن مَحسوباً سِوى على نَفسِه، كان أتباعُه مِن الشيعة والأكراد بقدَر أتباعِه مِن العَرب والسُنة بَل أكثر، وذاكِرتُنا لا تزال مُحتفِظة بأسماء بَعضِهم، كما نَكّل بالسُنة والعَرب بقدَر ما نَكّل بالشيعة والأكراد، وما فعَله بمَحمد مَظلوم الدليمي وراجي التكريتي وبأصهاره وأبناء عُمومَتِه صَدام وحسين كامل دَليل على أنه لم يَكن يُقيم للمَذهَب والعَشيرة أي إعتِبار بمُقابل سُلطتِه وكرسِيّه، وما فعَله جيشه في الكويت مِن فَضائِع وجَرائِم وانتِهاكات للأعراض دَليل على أن شِعاراتِه عَن العُروبة وفلسطين لم تكن سِوى للاستِهلاك المَحَلي والعَربي.
لكل الأسباب السابقة لا يَزال الواقِع العراقي وبعَد نُصف قرن مِن أفول النِظام المَلكي وعَقد مِن تَهاوي نِظام صَدام، مُرتَبكاً مُشَـوّهاً مُشَظّى الوَلائات، بَيـن زَعيم أوحَد كان مَريضاً بالعُصاب، وقائِد ضَرورة كان مِن شَـلاتيّة حِزبه، ومُختار للعَصر يَقطر عُقداً ويَنضَح طائِفية. واقِع مُتناقِض حَد الثَمالة لأنه لا يَقِف على أرضِية صَلِبة لقراءة التأريخ وإعادة تقييمِه، فنُخَبَه قبل عَوامِه غَير مُؤهّلة حّتى الآن لا فِكريّاً ولا إجتِماعِيّاً لهذه المُهِمّة الكبيرة التي يَتوَقف عَليها مَصير بلادَها وأجيالِها القادِمة، التي وللأسَف لا يُعَوّل عليها كثيراً لأنها سَتنشأ على نفس الأفكار المُشوّشة، ضِمن بيئة مُجتمَعيّة مُتناقِضة، يَستنِد فيها المُثقف والجاهِل على نفس العَوامِل آنفة الذكر عِند تقييمِهم للأمور.