في البدء علينا ان نستعرض تاريخيا واقع حال العراقين عبر قرن من الزمن , هل كان فيهم متدينون وملحدون ؟! فعندما تحول العراق من ولاية عثمانية الى مملكة دستورية 1914- 1918, فقد كان على شاكلة الدولة العلمانية , وفي عام 1925 عندما اقر مجلس الاعيان العراقي الدستور لم يعطي للدين اهميه وتركه ضمن الحقوق العامة , وعندما حل النظام الجمهوري في العراق عام 1958أشير في دستوره المؤقت ان الاسلام دين الدولة , ولكن ليس دين الدولة الرسمي , وعندما سيطر نظام البعث على مقاليد السطة في العراق عام 1968 فصل بين الدين والسياسة , اي لا يجوز لاعضاء البعث ان يصبحوا رجال دين ولا يجوز لهم التدخل في الشؤون الدينية , فكان الاعتقاد الديني للشخص هو مسألة شخصية , لكن الايمان بالبعث واجب عام , لقد كان النظام كاذبا , فرجل السياسة له الحق ان يتدخل في الدين ولكن رجل الدين لا يحق له نقد السيساسة …اذن العراق منذ عام 1918- 1978 على مستوى السلطة ليس دولة اسلامية بل اقرب الى الدولة العلمانية , ولكن هذا لا يعني انه لا يوجد اناس متدينين , بل لا يوجد اناس ملحدين .
في بداية الثمانيات برزت في العراق الظاهرة الدينية كردت فعل على ما حصل في ايران من ثورة اسلامية , وقد واجهها النظام البعثي بحزم نظريا وعمليا , فقد وصفها عام 1982 بانها ظاهرة سلفية متخلفة في النظرة والممارسة , وتبعتها ممارسات دكتاتورية فتمت ملاحقة المتدينين حتى وان كانوا بعثين وجرمت الاحزاب الاسلامية وكانت عقوبة من انتمى لها الاعدام , ومنعت طباعة الكتب الاسلامية وتروجيها , فكان اسهل على الجهات الامنية المنع بدلا من الاجازة , فاذا منع كتاب غير مشمول بالمنع لا تحاسب الجهات الامنية عليه , كما في منع كتاب بطلة كربلاء ل د. عائشة بنت الشاطىء , بل اذا اجيز كتاب به كلمة ممنوعة مثل الممل والنحل للشهرستاني عوقبت الجهات الامنية وانقبت الدنيا.
ان الغريب بالامركلما شدد النظام اجراءته التعسفية في ملاحقة المتدينين ازداد عددهم وكثر نشاطهم وتماشيا مع هذه الظاهرة , لجا النظام السابق الى محاربة الظاهرة الدينية بطريقة ما يسمى بالحملة الايمانية للتشويش وخلط الاوراق على اساس هو من اشاع ظاهرة التدين, والا كيف لحزب علماني معروف بايدلوجيته وتنظيره الذي ذكرناه يقوم بحملة ايمانية ؟! فكان اجراءه باطلاق الحملة الايمانية اسوأ من فعله بملاحقة واجتثاث المتدينين , ورغم هذا كله لم تؤشر في المجتمع العراقي اي ظاهرة او انحراف تنم على الكفر او الالحاد .
بعد 2003 صعد الاسلام السياسي في العراق الى السلطة , فاصبح الاسلام دين الدولة الرسمي ومنع تشريع يخالف الاسلام,بعد هذا التاريح الى اليوم اطلقت الحريات في العراق كما يقول الشيخ همام حمودي فكثر رجال الدين المعممين وانتشرت منابر الخطابة حتى ضاقت بها الفضائيات وازداد في العراق اعداد حجج الله واياته حتى وان كان لا احد يرجع لهم في التقليد , والقاصدون لزيارة الامام الحسين(ع) مشيا يتضاعف عام بعد عام حتى وصلت الى عشرات الملاين , هذه المعطيات لو وضعتها بيد باحث اجنبي لسلم لك بان العراق حاله يشبه حال نجد والحجاز في عهد النبي (ص), لكن نحن الذين نعيش الواقع بتفاصيلة لدينا نتائج مقلوبة ومغايرة , فسارقوا المال العام والكذابون والمرائون والمرابون والغشاشون والمنتهكي الحرمات وخائني العهد والفاجرون ازداد عددهم اضعاف مضاعفة , وبيع البشر وزواج القاصرات وتعاطي وتجارة المخدرات حالة طرات على المجتمع العراقي لم تكن مالوفة من قبل , واليوم نصحوا على كارثة أن (نسبة الإلحاد في العراق هي 38%) كما ذكرتها جريدة (وول ستريت) الأمريكية ، فسواء كانت هذه النسبة غير صحيحة او فيها مبالغة , ستبقى وكسة ونكبة المرحلة التاريخية التي نعيشها , فكيف اصبح بين العراقين ملحدون ؟! ماهي الاسباب والدوافع ؟! والحقيقية التي لابد قولها , ان العراقين فيهم ملحدون واذا اردنا التغاضي عن هذه التسمية نقول عنهم (اللادينين) الذين يؤمنون بوجود الله لكنهم لا يؤمن بالاديان بعد معاناتهم من الخطاب الديني المتطرف، وما يعقبة من تفجيرات للابرياء وقتل بالجملة على أساس ديني او طائفي… الالحاد سببه الفقر والفساد والقتل والتهجير والسلطة والحكومة غير العادلة, فساسة يحرمون مصافحة المراة الاجنبية علنا ويحيون ليالي حمراء سرا ويحللون سرقة المال العام باسم الدين .
اذا سالت ملحدا سيقول انا أؤمن بالله الخالق ولكنني لا انتمي الى اي دين، كوني شخصا (لادينيا)لانني ارى حكم الكافر العادل افضل من حكم المسلم الجائر بعد تجربة عملية لي معه , هؤلاء الملاحدة يعكسون حالة انعدام ثقة العراقي برجل الدين وبالدين ذاته بعد ان تلطخت يد رجل الدين بالمال الحرام وسرقة حقوق الشعب، واتخاذ الدين غطاء لارتكاب جرائم القتل الطائفي.
لقد نمت هذه الظاهرة لعدم تصدي مراجع الدين لها ولضعف المؤسسات الدينية لمعالجة الاشكالات التي تواجه الموروث الديني، حتى انني قبل سنوات سالت مجتهدا في الفقه عن هذه الانحرافات وضرورة مواجهتها فكان رايه السكوت عنها لكي تموت , ولكن في الواقع هي نمت وكبرت , لذا يتطلب إنشاء مؤسسات رصينة للرد على شبهات وأدعاءات الملحدين بطريقة علمية وتحصين الشباب دينياً وثقافياً وهذة مسوؤلية الدولة ومنظمات المجتمع المدني , بعد ان بقيت المرجعيات الدينية صامتة عنها , ولكن يتحتم عليها ان تمنع خطباءها من الخرافين والذين يشوهون العقيدة ويجعلون الاخرون من المشككين ينالون من الدين .