نستمر في هذه الحلقة بالحديث عن الطلبة العراقيين في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو . في الحلقة السادسة تكلمنا عن اول رئيس لرابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي المرحوم د. محمد علي الماشطة , الطالب في كليّة الاقتصاد , ونتحدث في هذه الحلقة عن الرئيس الثاني للرابطة , الطالب ايضا في كليّة الاقتصاد وهو المرحوم د. وجدي شوكت سري . وصل وجدي الى موسكو بعد عامين من وصولنا , والتحق بكليّة الاقتصاد بعد ان درس اللغة في الكلية التحضيرية . كانت هناك هالة كبيرة حوله باعتباره كان مناضلا شيوعيا في العراق و دخل السجون والمعتقلات بسبب عقيدته الشيوعية, وهكذا اصبح رأسا الرئيس الثاني لرابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي , و لكن الفرق بينه وبين محمد علي الماشطة كان واضحا , اذ كان وجدي مغرورا ومتعجرفا ويهتم بمظهره الخارجي ودائم الحديث عن نفسه ونضاله عكس محمد علي الذي كان يمتاز بالبساطة المتناهية والتواضع والطيبة والابتسامة الدائمة , ولم يكن وجدي يتقن اللغة الروسية ولا يعرف خصائص المجتمع السوفيتي حوله مثل محمد علي الماشطة طبعا , وكان يحتاج دائما الى مترجمين عند تعامله مع الروس . أذكر مرة , عندما زار موسكو الشاعر محمد صالح بحر العلوم , دعوناه كي نلتقي معه في جامعة موسكو , وكان وجدي باعتباره رئيس الرابطة مدعوا طبعا . كان اللقاء في قاعة صغيرة في الاقسام الداخلية لجامعة موسكو , واشترينا قليلا من الفواكه والشربت البسيط كي نقدمها للجميع اثناء اللقاء , فاذا بوجدي شوكت سري يطلب ان تكون له مع بحر العلوم مائدة خاصة تمتاز عن موائد الطلبة , مائدة تحتوي على كذا وكذا من الطعام والشراب , وعندما اخبرناه بعدم امكانية ذلك , غضب وأخذ يهدد ويرعد و يزبد, وقال وهو يصرخ , انه رئيس الرابطة , وان كلمته لا يمكن ان نناقشها . بل يجب ان ننفذها . لم ننفذ طلباته طبعا , ولكن وجدي – مع ذلك – جاء الى اللقاء وجلس مع بحر العلوم بشكل طبيعي ولكنه كان متجهما , ولم يتكلم بتاتا . انتهت فترة وجدي لرئاسة الرابطة , وبقي طالبا في كلية الاقتصاد وحسب , ولكنه استمر طبعا كواحد من قادة التنظيم الشيوعي الطلابي , وبعد ان انهى الدراسة , عاد الى العراق وترك كل ارتباطاته السابقة وكل علاقاته مع زملائه واصدقائه القدامى اثناء مرحلة الدراسة , ورجع مرة اخرى في السبعينيات للدراسة العليا في جامعة موسكو وفي كليّة الاقتصاد طبعا , ولكنه كان يختلف جذريا عن تلك الشخصية السابقة بكل معنى الكلمة , وقد كنت انا بايفاد الى موسكو للمشاركة بندوة اساتذة اللغة الروسية وادابها في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية , ومررت لزيارة اصدقائي العراقيين القدامى بجامعة موسكو , فرأيتهم يلعبون كرة القدم في باحة الاقسام الداخلية , وتعجبت عندما رأيت وجدي بينهم وهم يهزأون بلعبه وتصرفاته , وقلت لاحدهم ذلك همسا , فاجابني ضاحكا , انك تنظر اليه بعيون الستينيات عندما كان ( قائدا منتفخا !) , اما الان , فانه اصبح شخصا آخر تماما . تحدثت معه قليلا عندما لاحظني , وقال لي انه يعرف انني اعمل في صحيفة الجمهورية البغدادية, فتعجبت انا من قوله , وقلت له انني اعمل تدريسيّا في قسم اللغة الروسية بكليّة الاداب في جامعة بغداد , فاندهش وقال لي , انه قرأ مقالاتي شخصيّا في جريدة الجمهورية , فقلت له , انني انشر ترجماتي عن الروسية في صفحة آفاق , التي اسسها ويديرها الصحافي العراقي المعروف محمد كامل عارف خريج كلية الصحافة في جامعة لينينغراد , وان النشر في صفحة آفاق لا يعني انني اعمل في تلك الصحيفة , فصمت وجدي ولم يعلق بأي كلمة حول ذلك , وقد فهمت طبعا حتى من طبيعة حوارنا القصير هذا , انه اصبح شخصا مختلفا فعلا . وكان هذا آخر لقاء لي مع المرحوم د. وجدي شوكت سري وآخر دردشة معه .
ان المرحوم د. وجدي شوكت سري هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الطلبة العراقيين في موسكو ومسيرتهم في الستينيات , جزء ايجابي وسلبي في آن واحد , ايجابي لانه أدّى دورا واضحا و معيّنا في ادارة عمل الرابطة , اذ كان رئيسا لها لمدة سنة دراسية باكملها رغم بيروقراطيته و عنجهيته , وايجابيا ايضا لانه لم ينحدر في العراق ( عندما ترك كل شئ) الى مواقع مضادة لافكاره السابقة التي تركها , وانما اكتفى بعزل نفسه كليّا عن كل ماضيه ليس الا , وهذا موقف شخصي بحت , ولكنه موقف اخلاقي ايجابي بحد ذاته , موقف يستحق عليه التقدير والاحترام بلا شك , اذ كانت هناك تجارب اخرى مع هؤلاء الذين تركوا مواقعهم الفكرية السابقة وتحولوا الى عناصر مضادة عدوانية وانتهازية , ولكن وجدي لم يكن هكذا ابدا .
ختاما , اود ان اشير , الى ان ارملته اتصلت مرة بعمادة كلية اللغات ( وكنت انا معاونا للعميد آنذاك ) , وقالت انها تريد ان تهدي للكلية القاموس الروسي – الانكليزي الكبير , الذي كان عند المرحوم زوجها , فرحبنا بها واستلمنا منها القاموس المذكور , وكان اسم وجدي شوكت سري مكتوبا على صفحته الاولى وبخط يده , وقد شكرناها على هذه المبادرة العلمية الطيبة , وترحمّنا على روحه , واودعنا القاموس في مكتبة قسم اللغة الروسية بكليتنا , المكتبة التي احترقت باكملها اثناء الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 .