نستمر في هذه الحلقة بالحديث عن طلبة كلية الجيولوجيا في جامعة موسكو. الاسم الذي اريد ان اتوقف عنده قليلا هو المرحوم غريب رياح . كنّا نناديه باسمه واسم ابيه دائما – غريب رياح , ربما (لغرابة!) هذين الاسمين معا , وربما لطرافة غريب نفسه ورشاقته الروحية وخفّة دمه وابتسامته الدائمة واستجابته للتعاون والتعاطف مع الجميع . لقد كان منسجما مع جميع المحيطين به من عراقيين وروس . ذهبت اليه مرّة , وقلت له , ان الكليّة دعتنا – نحن العراقيين – للمشاركة في حفلتها , ونحن لسنا مستعديّن , فقال لي رأسا , انه يعرف اغنية روسيّة يغنيّها الشباب الروس في سفراتهم ويحبونها جدا , وانه يمكن لنا – نحن العراقيين – ان نحفظها ونغنيّها بسرعة , واذا ما قدمناها امامهم في الحفلة , فستكون مشاركة ناجحة وطريفة . وافقنا جميعا على هذه الفكرة ( الغريبية الرياحية !), وامسك غريب بيده غيتارا ( وهو لا يعرف بتاتا العزف عليه) وبدأ وكأنه يعزف , وبدأنا نحن حوله نتدرب على غناء تلك الاغنية الروسية حسب الكلمات التي علّمنا اياها , وهي كلمات رقيقة وبسيطة تتحدث عن انطباعات الناس وهم ينظرون الى الجنود الذين يمرّون امامهم و يدكّون الشوارع باحذيتهم العسكرية . حفظنا الاغنية – بحماس الشباب ومرحه – خلال اقل من ساعة , واتفقنا ان نكون هناك في الوقت المحدد . حضرنا طبعا , واخبرت مسؤول الحفلة , اننا سنقدّم اغنية روسيّة . فرح المسؤول الروسي واندهش من قرارنا , ووافق رأسا على هذه ( المشاركة العراقية الجميلة ! ) دون ان يسألنا عن تلك الاغنية , وهكذا ظهرنا على خشبة المسرح و قدمّنا تلك الاغنية وغريب رياح يتوسطنا وهو يمسك بالغيتار وكأنه يعزف عليه . استقبلنا الحضور الكبير( وهم طلبة روس طبعا ) بحرارة وحماس هائل و مرح وابتسامات وضحك وهم يستمعون الينا , وصفقوا لنا تصفيقا حادا جدا أدهشنا عندما انتهينا من الغناء , وما ان انسحبنا من خشبة المسرح ونحن سعداء بهذا النجاح الرائع , فاذا بالمسؤول عن الحفلة يركض نحونا وهو يصرخ قائلا , ماذا عملتم , وكيف تقدمون اغنية ممنوعة في الاتحاد السوفيتي على خشبة مسرح بجامعة موسكو !! . فوجئنا نحن طبعا بردة الفعل هذه , وقلنا له , اننا لا نعرف انها ممنوعة , ولكننا سمعناها من الشباب الروس انفسهم وهم يغنونها. حاولنا طبعا ان نخفف من ردود فعله , ونحن نعتذر ونتعثّر بالكلام معه ونتحدث عن مضمون تلك الاغنية البسيط جدا, وانسحبنا – بعدئذ – رأسا بهدوء وبسرعة من تلك الحفلة . لقد تبين لنا ( بعد فترة طويلة طبعا ) , ان هذه الاغنية من تأليف وتلحين وغناء الشاعر بولات أكودجافا , وهو من اوائل الشعراء السوفيت الذين بدأوا بالقاء قصائدهم مغناة امام الجمهور وهم يعزفون على الغيتار , وقد تقبّله الجمهور السوفيتي بحماس منقطع النظير, لأن أشعاره كانت بسيطة ورقيقة وذات مضامين انسانية بحتة , وخالية بتاتا من الشعارات والكلمات الطنانة والرنانة , التي كانت تسود في تلك الايام الخوالي . والشاعر أكودجافا من أب جورجي تمّ اعدامه زمن ستالين بتهمة ( عدو الشعب !! ) وامّ ارمنية تمّ سجنها ونفيها لنفس تلك الاسباب السياسية الواهية والرهيبة في ذلك الزمن المتجهم ( انظر مقالتنا بعنوان – الشاعر بولات أكودجافا ..تعريف وقصائد) . كان الشباب السوفيتي يتابع اغانيه سرّا وعن طريق اشرطة التسجيل التي يسربوها من يد الى يد , وان الدولة السوفيتية آنذاك قد منعت رسميّا نتاجاته كليا من التداول في وسائل الاعلام السوفيتية, ولكن الممنوع مرغوب كما يقول المثل , ولهذا كان الشباب يغنون تلك الاغاني بحب وحماس اثناء سفراتهم , وكان الجميع طبعا يعرفون تلك الاغاني , ولكن لا احد يجرأ ان يقدمها في الحفلات الرسمية او يتحدث عنها علانية, ولهذا السبب بالذات استقبلتنا القاعة آنذاك بذلك الحماس والتصفيق , لانهم ظنوا , اننا قررنا تأييدهم وتقديم الاغنية من على خشبة المسرح بغض النظر عن منعها من قبل السلطات السوفيتية , وذلك لكوننا أجانب , وان السلطات لا تستطيع ان تحاسبنا مثلهم . ضحكنا كثيرا – بعد انسحابنا من الحفلة بعد هذا العرض – ونحن نقول لغريب رياح انك ورطّتنا , رغم اننا جميعا كنّا لا نعرف طبعا تلك التفصيلات عن الرقابة السوفيتية ومفاهيمها وتعليماتها الصارمة واجهزتها, و الحمد لله , ان المسألة انتهت آنذاك بسلام .
عاد غريب رياح الى العراق بعد التخرّج , ولم يحاول التشبث بالبقاء للحصول على الدكتوراه كما فعل بعض الخريجين آنذاك , وسمعت انه شغل منصبا محترما في احدى المحافظات , وسمعت ايضا بوفاته مع الاسف , ولا اعرف سبب رحيله المبكر.
الرحمة والسكينة لروحك يا صديقنا وزميلنا الرائع غريب رياح .