7 أبريل، 2024 9:54 ص
Search
Close this search box.

العذراء الجامحة – 5

Facebook
Twitter
LinkedIn

الحلقة رقم – 5 –
وراح يتكلم ويتكلم بلا توقف أسترجع فيها تجارب كثيرة مرت في حياته، أو قرأها في كتب كثيرة. كانت تنظر أليه بأعجاب شديد. كانت مندهشة لهذا التحول المفاجئ الذي طرأ عليه.. على روحه المعذبة. هل هو نفس الشخص الذي كان يائساً قبل قليل ويريد الانتحار من خلال تلك الهوة السحيقة. كانت عيناه مزيجاً من البريق واللمعان. بدأ ينظر نحو سقف الملجأ وإلى تلك الأحزمة الضوئية المنبثقة من الفتحات التي أعدت لدخول الهواء. يا ألهي أنها لا تصدق أن الحياة دبت في عروقه من جديد. حينما تأكدت من صدق قوله وتفاؤله اللامحدود شعرت أن شيئاً روحياً صادراً من بين ثنايا روحه يخاطب روحها المنكسرة. دون توقع راحت تبكي بصوت يمزق نياط الأفئدة وهي تقول ” ..لماذا يفعلون بنا هكذا؟ نحن مسالمون؟ نحن مجرد عائلة بائسة فقدت أحبائها في غفلة من الزمن! ماذا سنفعل ؟ لم يعد لدينا شيء. ذهبت أغنامنا. ذهب بيتنا. كيف سنعيش؟ أين سنعيش؟ أحترق البيت ومات جزء كبير من الأشجار. حلت بنا اللعنة وضِعْنا في خضم الخوف والدمار.” . ظلت تنتحب. لم يتدخل. لم يمنعها من النحيب. ظل يراقبها كأنها ممثلة سينمائية في أحد الأفلام الرخيصة. توقفت عن البكاء. مسحت عينيها من الدموع. نظرت أليه. كانت عينيها تنطقان بأشياء كثيرة. دون سابق إنذار قال بأنكسار ” ..هل سبق لي أن شاهدتُ والدتكِ في مكان ما ؟ أشعر أنني شاهدتها في مكانٍ ما أو ربما شخص ما يشبهها!. لا أدري أين؟” . سكت عن الحديث. نظرت أليه بهدوء وهي تقول بجرأة ” ..هل أستطيع أن القي نظرة على فخذك الأيسر من الخلف؟ ” . نظر إليها برعب وقلق. إعتقدَ أنها فقدت عقلها من شدة الأهوال التي مرت بها هذا اليوم وعصفت بالجميع هذه الساعات القليلة. لم يجبها. أحس بالشفقة عليها. كررت القول مرة أخرى ” ..أرفع سروالك. إستدر إلى الجهة الأخرى، أريد أن القي نظرة على فخذك الأيسر من الخلف. أفعل ذلك أرجوك. سأخبرك فيما بعد.” أحسَّ بالشفقة عليها هذه المرة أكثر من السابق. لم يكن يريد أن يقول لها أنها فقدت عقلها. إستدار إلى الجهة الأخرى، وقبل أن يرفع سرواله قفزت هي ورفعت السروال بيدها. صرخت بقوة ” ..نعم. وفاء. نعم. وفاء” . أعادت السروال إلى مكانه وعادت هي الأخرى لتجلس في مكانها السابق. لم يفهم ماذا كانت تقصد من قولها وتكرارها كلمة«وفاء».! نظرت أليه هذه المرة بطريقة أخرى وهي تقول ” .. أنت … نوار…. نوار حامد، اليس كذلك؟” . أندهش أقصى درجات الاندهاش. جحظت عيناه. شعر بدوار حقيقي كاد يفقده كل أحاسيسه. نظر إليها برعب كأنه ينظر إلى ساحرة متمرسة. قال بصوت سيطر عليه هلع حقيقي ” ..كيف عرفتي أسمي؟. من أنتِ؟ ” . قالت بأندفاع ” .. لماذا تركتَ والدتي؟ لماذا لم تفِ بوعدكَ معها؟. أنتم الرجال هكذا في كل زمان ومكان. كل رجل في هذا العالم ما هو إلا مشروع كاذب أمام كل فتاة يتعرف عليها، يوهمها بوعود كاذبة. يقول لها كلمات جميلة ومن ثم يبتعد عنها كأنها مخلوق بشري أصابه الجرذام.” مسحت دموعها التي كانت قد تجمعت في مقلتيها من شدة الانفعال. صمتت قليلاً بعدها أردفت قائلة ” ..أنتَ الشاب الذي تعرف على والدتي قبل أكثر من ثلاثين سنة. كان يرافقها إلى كل مكان يذهب أليه أثناء دراسته الجامعية. أعرف كل تفاصيل حياتكَ مع والدتي عندما كانت تدرس معك في جامعة(……) في قسم(……). لقد حدثتني والدتي عن تلك القصة البريئة التي عاشتها معك لأنها كانت فقيرة ومن مدينة-……- عندما كنتُ في السنة الخامسة من عمري كنت أطلب من والدتي أن تحكي لي حكاية كل ليلة كل يوم قبل النوم. كانت تحكي لي قصتها معك ولكنها كانت تنسبها إلى فتاة مجهولة. عندما كبرتَ كنت أسألها عن الفتاة المجهولة وهل هي قصة حقيقية؟ كانت تصر بأنها مجهولة، وبتواتر السنين اعترفت لي بكل شيء. والدي لا يعرف أي شيء عن تلك الحكاية، لم تقل له ذلك أحتراماً لمشاعره. منذ أن عرفتُ أن الحكاية كانت صادقة، تحكي خيانة شاب لصديقته في زمنٍ ما، قررت مع نفسي أن لا أتزوج أبداً. لن أقع في حب رجل مهما كان لأن الوقوع في حب شخص ما، معناه العذاب الأبدي.. كان ينظر إليها كالمسحور كمن تلبسّه مسّ من الجن. كان يبتسم حيناً ثم تتقلص عضلات وجهه حيناً أخر. لم يرد التفوه بأي حرف حتى تنتهي من تلك الحكاية الملفقة. مسحت أنفها بهدوء بتلك القطعة الخفيفة التي كانت تربطها على عنقها على الدوام. دون وعي القتها اليه مرة أخرى وكأنها كانت تريده أن يفعل ذات الشيء. إختطف قطعة القماش ولكنه أحتفظ بها في قبضته اليمنى. استطردت في حديثها المبني على حكايات والدتها.” …كانت تمارس الرياضة في كلية(…….) وبالذات رياضة رمي القرص. أما نوار…. عفواً أنت. كنت تمارس كرة الطائرة. كنتما تقضيان ساعات طويلة في ملعب الكلية حتى بعد الدوام الرسمي. الفتيات الأخريات كنّ ينظرن إليكما نظرات الحسد والغيرة لهذا التآلف الاجتماعي الفريد. كانت والدتي تفقد صوابها عندما كنت تتحدث إلى فتاة أقصد طالبة أخرى. كنت أنت تبتسم لها بتحدي وكأنك تريد أن تثبت لها رجولتك، كأنك تريد أن تقول لها بأنك فتى ومن حق الفتى أن يتحدث إلى أي فتاة يراها مناسبة للحديث ” . كانت تعابير وجهه تتغير في كل لحظة صمت تسيطر عليها. كان يسحق قطعة القماش بقبضته الفولاذية كلما تمادت في حديثها. كان يريدها أن تتوقف عن الحديث كي يبدأ هجومه المضاد والدفاع عن نفسه. شعر أنه لا يمكن الدفاع عن نفسه أمام هذا التدفق الهادر من الكلمات التي لا تنقطع. كلما أراد الحديث أشارت أليه بالصمت لأنها لم تنهي حديثها بعد. أحسّت أنها كانت تريد أدانته بأي وسيلة. شعر بتدفق الدماء تندفع إلى قلبه وكافة عروقه وتكاد تحيله إلى كومة من الأعصاب البشرية الممزقة. شعر كأنه مختطف من قِبل إحدى الطوائف العديدة المنتشرة في بلدٍ ما وزمانٍ ما- أذا قال بأنه من تلك الطائفة سخروا منه وإذا قال لهم أنه ينتمي إلى الطائفة التي ينتمون أليها سخروا منه، وكأنهم كانوا يريدون قتله مهما يكن انتمائه وأصوله العرقية إنهُ ألانتقام وليس غير ألانتقام. حبس أنفاسه وقرر الصبر لحين الوصول إلى منفذ يستطيع من خلاله الوصول إلى راحة البال والطمأنينة. قالت بهدوء كأنها تريد أن تزيد من عذابه “.. لقد أهدت لك والدتي قطعة من الصوف كي تضعها حول رقبتك كي تقيك شر البرد القارص لأنك كنت تأتي من محافظة بعيدة كل صباح. أما أنت لم تقدم لها سوى العذاب والهجران وعدم الوفاء بوعودك. عندما وصلت إلى تلك المرحلة المتقدمة من الاتهامات المزيّفة لم يعد يحتمل السكوت. لم يعد يطيق تلك السياط النفسية التي كانت تلهب روحه ونفسه الحائرة. صرخ بها بأعلى صوته طالباً منها الصمت. كان صوته مدوّيا قذف في قلبها رعباً حقيقياً. شعرت بالخوف من تلك القسمات المرعبة التي غطت كل وريد وعصب في وجهه. كان قلبه يرتفع ويهبط كأنه عصفور صغير قد سقط في بركة ماء آسن في يوم عاصف. تركت له حرية واسعة من الزمن للدفاع عن نفسه. حدّق بقسوة في مقلتيها وهو يقول بصوت مرتجف “..من قال لك أن والدتك كانت بريئة؟ من قال لك أن والدتك كانت تقول الحقيقة؟ لا أريد أن أتهم والدتك بالكذب، ولكنني أستطيع القول أنها كانت قاسية جداً معي وحوّلت حياتي إلى بؤرة من الآلام التي ليس لها حد أنها أقسى إمراة عرفها التاريخ القديم. صحيح أنها كانت بلا أب كان والدها قد أنتقل إلى العالم الأخر وهي لا تزال زهرة في طور التكوين كانت هي الفتاة الوحيدة في عائلتها. كانت والدتها تبيع الخبز كي توفر لها مصاريف الدراسة. كنت أنا في التاسعة عشر من العمر عندما جئت من محافظة بعيدة عن العاصمة. كان هدفي الوحيد الوصول إلى العاصمة كي أدرس في أحدى جامعاتها. في اليوم الأول لوصولي إلى الجامعة لم يكن هناك أحد من الطلبة. تجولت هنا وهناك في كل زاوية من زوايا الحرم الجامعي في محاولة لاستكشاف ما هو جديد في ذلك الحرم الزاخر بالعلوم العديدة. كان ذلك اليوم تحولاً هائلاً في حياتي الفتية. كنت كمن تاه في عالم مجهول. كانت النشوة العارمة تسيطر على كل ثنايا روحي. من بعيد شاهدت فتاة سمراء مكتنزة الجسم- يبدوا أنها كانت تمارس رياضة ما – فقد تناسق جسدها تناسقا رائعاً كأنها حورية قد أبدع الخالق في صناعتها. نظرت أليها من بعيد، شعرتُ أن تناغماً روحياً خفياً يشدني أليها. لكن كيف أتحدث أليها وأنا الفتى الريفي القادم من أعماق التاريخ. كانت ترتدي ملابس جامعية جميلة الصنع. كان هناك صراعاً داخلياً عنيفاً يتفجر داخل حنايا نفسي يحثني على التقدم نحوها والتحدث معها بأي وسيلة. كنت أعيش في قرية صغيرة عند حافة النهر الكبير الذي يخترق المحافظات الجنوبية. الفتيات في قريتي البسيطة محتشمات ويضعن العباءة السوداء على الدوام. جميعهن بمثابة شقيقاتي والحديث معهن لا يتعدى السؤال عن الأحوال وعن العائلة، لا أحد يتحدث عن الحب والهيام أبداً فهذا محرم في تقاليدنا الاجتماعية والبيئية. أما ألان أمام هذه المخلوقة الأنثوية القادمة من العاصمة والجالسة في هذا الحرم القدسي فله مداليل وتداعيات أخرى”. توقف عن الحديث برهة من الزمن كي يستعيد ترتيب أفكاره، كي يتقن الهجوم الدفاعي مرة أخرى وتبرئة ذاته. كانت سميرة تصغي إليه بكل أحاسيسها ومشاعرها كأنها تستمع إلى حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة الخيالية. أعجبها هذا السرد المتداخل لحكاية قد تباينت آراء المتحدثين عنها تمنت لو أنه لا يتوقف عن الحديث لحين انتهاء حياتها في هذا العالم القاسي الذي اختلطت فيه الحكايات الخيالية بالحكايات الواقعية. لم تعد تدري من تصدق؟ هل تصدق والدتها- التي كانت كل شيء بالنسبة لها، أم هذا الغريب القادم من أعماق الزمن المجهول؟. كانت كل ما تريده هو معرفة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة كي تستطيع في النهاية إصدار حكمها حيال هذين المخلوقين البشريين المتصارعين والذي يحاول كل واحد منهما الانتصار على خصمه في معركة ليس لها وجود. مسح وجهه الذي كان يتصبب عرقاً بتلك القطعة الناعمة من القماش ثم أردف بعدها مستطرداً ” .. دون الاهتمام للأعراف والتقاليد الاجتماعية تقدمتُ نحوها وقلبي يخفق إضطراباً وكأنني أتقدم نحو الهلاك. قلت لها بأنني طالب جديد ولا أعرف أين أذهب. نظرت الىّ بعينين مشرقتين وكأنها كانت تنتظر هذا الهجوم المباغت ساعاتٍ طويلة. دون اهتمام أخبرتني بأنها هي الأخرى طالبة جديدة ولا تعرف أين تذهب. ظلت تنظر اليّ دون أهتمام. فقدت السيطرة على مشاعري وقررت الأستمرار في المناورة وليكن ما يكن. قلت لها ” ..إسمي نوار- ما أسمك ؟.” ضحكت ثم قالت “..نورتنا يا سيد نوار- أسمي وفاء.” تشجعتُ قليلاً وكأن أكسيراً من روح الحياة قد نفذ إلى أعماق أعماقي. إندفعت كالفاقد لصوابه دون حياء. حدثتها عن نفسي وعن قريتنا التي جئت منها في فجر ذلك اليوم، حدثتها عن شقيقاتي وعن كل شيء. ضحكت بصوتٍ مرتفع قليلاً وهي تقول “..ولكن لماذا تحدثني عن كل هذه التفاصيل، نحن لا نعرف بعضنا البعض هل أنت تتحدث مع أيّةِ فتاة تشاهدها لأول مرة عن كل هذه التفاصيل؟ ماذا ترمي من وراء ذلك ” . شعرت أنها لا تحترم صدقي ولا تحترم ذلك الاندفاع البريء الصادر من فتى يافع لم يتحدث إلى فتاة من العاصمة طيلة حياته التي قضاها بين الأشجار السامقة وهدير أمواج النهر الكبير. فجأة شعرت بالأشمئزاز من كل شيء ينتمي إلى العاصمة، شَعرت بحنين رهيب نحو الأرض هناك في تلك القرية الصغيرة. كانت تصل إلى مسامعي أصوات رعدٍ ومطر وخرير ماء وأصوت بلابل وموسيقى هادئة قادمة من أعماق البساتين هناك.. لم يخطر في ذهني أن الناس قساة حتى الفتيات. أريد الهروب الأن بأقصى سرعة والعودة إلى مملكتي البرية وصوت خرير الماء الذي لا ينقطع أبداً. آه..آه.. أيتها القرية الوحيدة أنتِ ملاذي الوحيد من هذا العجز الصارم أمام هذا الظرف العارم. قلتُ على الفور “..عفواً. المعذرة”. إبتعدتُ عنها كي أجلس على المقعد البعيد في الطرف الأخر من تلك الحديقة المتناسقة الورود والأشجار المعمّرة. شعرت بالحزن الشديد. سافرت نظراتي نحو الأشجار الشاهقة،حسدت تلك الطيور التي كانت تتقافز على أغصانها غير آبهة للاندحار الذي غزا قلبي. شعرت بالغضب على ذاتي وقررت العودة إلى قريتي وترك هذا الحرم الجامعي الذي سبب لي هزيمة نكراء منذ اليوم الأول. قررت أن أترك هذه الجامعة والأنخراط في الكلية العسكرية- فأنها مصنع الأبطال كما يقولون-. الحياة هناك قاسية وأنا أحب الحياة القاسية التي إستلهمتها من حياة الريف. إستحوذت عليّ الفكرة وقررت النهوض والأنطلاق إلى – مصنع الأبطال-. هناك لا توجد طالبات ولا يوجد خوف من الفتيات،كهذه الفتاة التي تسمي نفسها ” وفاء ” إنها خداع وليس وفاء. وقبل أن ألملم أوراقي وأصطحب أحزاني بعيداً عن عالم الجامعات المدنية والأنخراط في حياة العسكر القاسية، تقدمت وفاء نحو المكان الذي شهد إنسحاق روحي. دون أن تستأذن مني جلست على نفس المقعد الحجري المرمري المخصص لجوس الطلبة. لم أنظر اليها أبداً تحسباً من حدوث مضاعفات جديدة لذلك الأنهزام الأول الذي سحقني قبل قليل. بادرت قائلة دون أن تنظر اليّ،كانت تنظر نحو الأعشاب الخضراء عند قدميها ” ..لم أقصد أن أصدك، لم أقصد أن أسبب لك أي ألم. أنا حذرة فقط، حذرة من كل شيء. حذرتني أمي من شباب الكليات والجامعات. أنا فتاة فقيرة يتيمة الأب . والدتي تبيع الخبز في مدينة بائسة ولو أنها تُعتبر ضمن حدود العاصمة. لقد عانيتُ الكثير مع والدتي. هي تخبز وأنا أدور على البيوت القريبة كل يوم أبيعهم الخبز في نفس الوقت. هي خياطة ماهرة، أنظر هي التي صنعت لي هذا الزي الجامعي الجميل. كم أنا فخورة بها ! لقد عملت المستحيل كي أصل إلى هذا اليوم، اليوم الدراسي الأول. كنتُ أمارس الرياضة في المدرسة الأعدادية، وكان هدفي الوحيد أن أكون مدرّسة تربية رياضية، بَيْدَ أن والدتي كانت تصر أن أدرس في هذه الجامعة وهذا القسم بالذات. لقد قرأت روايات تعلمتُ منها أشياء كثيرة. يبدوا أنك شاب بسيط وصادق المشاعر وهذا قد بدا لي من خلال حديثك عن والدتك وشقيقاتك. لم أكن أتصور أن شاباً يندفع إلى هذا الحد من الصراحة للحديث عن عائلته إلى فتاة يراها لأول مرة ولا يعرف عنها أي شيء. لديّ طموح جبار في هذه الحياة، أولها تعويض والدتي عن سنوات الحرمان بعد وفاة والدي. لم تتزوج مطلقاً بعد رحيل والدي لأنها كانت تريد أن تراني فتاة كبيرة متزوجة ولديها عائلة على حد قولها. كان همها الوحيد أن أتزوج من رجل ميسور الحال حتى لو كنت لا أحبه، كانت تقول بأن الحب يأتي بعد الزواج. كنتُ أضحك على كلامها وأقول لها (كيف يمكن لفتاة أن تعيش مع رجل لا تحبه؟ “. كلما تقدمت في كلامها عن حياتها الشخصية كانت الثقة بالنفس تعود لي، أستعدتُ جزءاً من مشاعري رويداً رويداً. شعرت أن الدماء تعود إلى عروقي كلما ذكرت شياً تفصيلياً عن حياتها الشخصية. شعرتُ أن شقيقتي هي التي تتحدث وليس فتاة غريبة قادمة من هذه العاصمة المترامية الأطراف ” . توقف الرجل عن الحديث كي يُعيد ترتيب أفكاره المبعثرة هنا وهناك. أراد أن يذكر لسميرة كل شيء عن ذلك اللقاء الخالد، السرمدي، ليس دفاعاً عن نفسه أمام هذه العذراء البرّية التي لم تذق معنى الحب البريء ولم تتذوق الحب الجسدي والرغبة الأنثوية القابعة في أعماق كل فتاة وامرأة ولكنه أحسّ انه كان يتكلم عن حب لم ير النور ولم يتمخض عن زواج أو إرتباط قدسي، شعر أنه يحلق في عالمٍ سحري خيالي ليس له وجود في هذا العالم القاسي المبني على الحقد والصراعات الدموية والعرقية والمذهبية. أراد أن يهرب تماماً عن الواقع المرير الذي يعيش فيه فهذه فرصة نادرة لن تتكرر أمامه مطلقاً، عليه أن يغتنمها بكل مشاعره وأحاسيسه، فالفرصة التي تصل إلى متناول اليد ولا يغتنمها أحد فهذا الجنون بعينه. أما سميرة فكانت ترتجف من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، كانت تشعر بتقلصات تسيطر على جسدها كله. كانت تتخيل أنها هي الأم-أقصد الفتاة الجامعية- وهذا الرجل هو الشاب البسيط القادم من أعماق المجهول كان هناك مزيجاً من التلاقح الروحي والأرتعاش الداخلي يهزها لدرجة أنها تكاد تفقد صوابها. كانت نظراتها تتوسل أليه ، تستجديه أن يستمر في هذا الحوار الوجداني المنبعث من أعماق هذه النفس البشرية التي إكتوت بنيران الزمن الملتهب. كان يسرق النظر إليها بين الحين والأخر كي يرى مدى تأثير كلامه عليها، كان يعتبرها مجرد طفلة أمامه على الرغم من بلوغها الثامنة والعشرين أو الثلاثين. لم يعد يهتم مطلقاً لها فهي مجرد مخلوقة أنثوية ساذجة مهما توصلت إليه من المهارات الفردية في ركوب الخيل أو تعذيب المخلوقات البشرية أمثاله. لو أنه كان قد تزوج (وفاء)لكانت هذه الفتاة البرية الجامحة ما هي إلا أبنته ولكن ماذا يفعل لتقلبات الزمن وقسوة الحياة الممزوجة بقساوة البشر في كل زمان ومكان.؟

يتبع….

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب