18 ديسمبر، 2024 9:52 م

العذراء الجامحة – 3 –

العذراء الجامحة – 3 –

الحلقة رقم – 3
صرخت بأعلى صوتها “أمجد،أمجد،أمجد” وراحت تضرب وجهه بيدها اليمنى. لم تستخدم السوط لأنها كانت تريد أن تمتزج ألامها بألامه. راحت تصفعه على عينيه وأنفه وشفتيه وصدره،كانت تريد أن تزيل ذلك الغضب بأية وسيلة. كان هناك غضباً في صدرها لايزيله أي شيء في هذا الوجود. لم تشعر بتلك الدماء التي كانت تسيل من رأسه وشفتيه. تلطخت يدها بدماءه الغزيرة. لم تعد مجرد فتاة عذراء تعتني بأفراد أسرتها سنوات طويلة. أما ذلك الإنسان المحطم المكبل إلى الشجرة الذي ينتظر مصيره المجهول. كان ينظر إليها دون اكتراث كأنها لم تكن موجودة أمامه. كان يتمنى أن تسرع في الإجهاز عليه وتحيله إلى جثة هامدة. فجأة صرخ بقوة يستفزها ” ماهذا؟ لماذا لاتضربي بقوة؟ هل أنتِ عاجزة ؟ أأنت ضعيفة؟ استعملي عصا حديدية، هشمي رأسي..من أنتِ؟ أنتِ بلا إحساس، أنت لا تعرفين معنى الانتقام ولا حتى الحب، اضربي بقوة ، وراح يضحك عليها بشكل هستيري ” . تراجعت إلى الوراء مذعورة وكأنها عادت إلى صوابها، ظلت تنظر إليه . هدأت ضحكاته الصاخبة . راح جسده يرتفع ويهبط في حركات متسارعة كأنه يركض في سباق مارثوني عبر السهول الممتدة نحو الظلام البعيد. وفجأة نظرت إلى أصابعها الملطخة بدماءه. حدقت عدة دقائق نحو تلك الدماء وبدون وعي راحت تلعق تلك الدماء كأنها أنثى ذئب متوحشة. بعد فترة صمت قصيرة امتدت كأنها قرون طويلة. هجمت عليه مرة أخرى ولكن هذه المرة بطريقة أخرى.وبدأت تحتضنه كأنه طفل صغير تقبله في كل جزء من جسده تقبل كل جرح من جروحه. شعر بألم وحرقة شديدة بسبب تلك الدموع التي اختلطت بدماءه. لم يتحرك. لم يبدي أية مقاومة لأنه أعتبر ذلك نوعاً أخر من التعذيب النفسي والجسدي. راحت تبكي بحرقة وهي تقبل رقبته وصدره وعينيه وهي تشهق قائلة ” ..أيها الملاك البشري المحطم. كم قاسيت من آلامٍ وعذاب لا يطاق. أنت يا من حاولت إنقاذ أخي،كم أنا مدينة لك بالشكر والتعظيم.أنت فوق جميع المخلوقات الإنسانية التي مرت في حياتي. أيها المسكين الذي فقد زوجته وأبنته وأخي لا..لا.. إنه أبنك ، أنت تستحق أن يكون أمجد أبنك كيف تريد أن أعوضك ، لاادري كيف أعوضك أنا لا أملك الآن أي شيء سوى هذه الأرض الوعرة التي عانيت منها الشيء الكثير. ماذا تريد مني أن أقدمه لك قرباناً لوفائك وحبك لأخي . هل تريد جسدي؟ لا أملك سوى عذريتي وهي أثمن شيء عندي في الوجود، هل تريدها الآن أم في وقت أخر. لا أعرف ماذا أقول؟ ولا اعرف ماذا أريد؟ أصبحت عاجزة، هرمة بلا فائدة، أرجوك ساعدني سأصاب بالجنون ” . وراحت تبكي بصوت مرتفع وهي تفك قيود يداه وتقول ” ..يالقساوة الزمن ! لماذا يتعذب الإنسان هكذا؟ هل هذا من صنع يد الإنسان أم هو مكتوب علينا منذ أن جئنا إلى هذه الحياة الفانية ” . حينما أصبحت يداه حرتان سقط على الأرض فاقداً لوعيه سعيداً لأنه بكى كثيراً، بكى على أحباءه. عادت تقبله على رأسه وفوق يديه. ظل ساكتاً بلا حراك. ارتعشت أوصالها وظنت انه فارق الحياة.. قفزت إلى النهر الصغير القريب من الشجرة. بدأت تغرف الماء بكلتا يديها وتلقيه على جسمه. شاهدت الدماء اليابسة تسيل مرة أخرى مع قطرات الماء المتساقطة فوق جسده وتتجه نحو الأرض. بدأت دماءه تسقي أرضها الوعرة كما سقت دماء شقيقها جذور الشجرة الوحيدة في حديقة داره قبل أيام قليلة. فتح عيناه ، ظل ممدداً على جانبه الأيسر لايقوى على الحراك. فرحت سميرة عندما شاهدت نظراته الضعيفة تسافر نحوها بتوسل وذهول كأنها تستفسر عن سبب وجود هذا الجسد في هذا المكان وهذا الزمان. قفزت نحوه وراحت تمسح جسده بثوبها الأسود الطويل غير مهتمة لظهور بقعة من ساقها الأبيض مرة وفخذها المكتنز تارة أخرى. سحبته نحو الشجرة وشرعت تمسح بهدوء كل عين من عينيه وأنفه وشفتيه. ناولته قليلاً من شراب اللبن اللذيذ وبعد أن تناول قليلاًُ من ذلك الشراب، نظر أليها قائلاً بهدوء وصوت واهن ” ..أين أنا؟ لماذا أنا هنا؟ من أنتِ؟ أشارت أليه بعدم الكلام، وظلت تمسح جسده وتزيل عنه كل أثر من أثار التراب الممتزجة بالدماء والإنهاك . في اللحظة التي أستعاد فيها وعيه بصورة كاملة، نظر اليها بهدوء قائلاً ” أين ملابسي؟ أين بنطالي وقميصي؟ ومن دون أن تجيبه بكلمة واحدة أسرعت إلى الجزء القريب من حاجياتها وراحت تلتقط بعضاً من الملابس التي غطتها ذرات التراب. بدأت تضع عليه قميصه بهدوء وكأنه طفلها الصغير, حاول أن يدفعها عنه كي يرتديه بنفسه بَيْدَ أن قواه الخائرة منعته من ذلك. أستسلم لها كما أستسلم لقدره منذ زمن بعيد. بعد أن نجحت في مساعدته لأرتداء سرواله وقميصه ، راحت تمسح قدميه بيدها اليمنى كي تستعد لمساعدته في ارتداء حذائه. ظل ينظر أليها مذعوراً وهو يردد في قرارة ذاته ” ..ماذا تريد مني هذه الفتاة المتوحشة؟ تارة تضربني وتارة تمسح قدمي!هل أنا أعيش في عالم الواقع أم الخيال؟ ” . لم تأبه له ولأفكاره المتصارعة في ذهنه. كانت تريد أن تقدم له أقصى عناية ممكنة بعد أن عرفت حكايته مع شقيقها وحكاية عائلته المسكينة. حاولت أن تزيل عنه قسماً من ذلك العذاب الذي سيطر عليه ردحاً من الزمن. ولكن كيف ومتى؟. إنها لاتملك أي شيء في هذا العالم سوى أحزانها ودموعها التي تجري كل يوم كأنها شلالات هادرة في جبال مهجورة. من بعيد جاء صوتاً رتيباً كأنه طنين أفواج من النحل الهائج. بدأ الصوت يقترب رويداً رويداً. كانت وفاق قد عادت مع والدتها على دراجة أمجد. ارتعب الرجل المقهور على أمره حينما شاهد امرأة متوسطة العمر وفتاة في ريعان الشباب تقتربان منه وتتقدمان بخطوات ثابتة والشرر يتطاير من عينيهما. فكر مع نفسه بأن هذه اللحظات ستكون الأخيرة في حياته. راحت المرأة تطلق نيران بندقيتها في الهواء وفوق رأسه وهي تتقدم نحوه كمقاتل عنيد يتقدم نحو الهدف المرسوم بلا خوف أو وجل. نهضت سميرة مذعورة وركضت صوب والدتها صارخة بأعلى صوتها “.. ضعي البندقية جانباً. كل شيء على مايرام انتهى الأمر، لقد عرفتُ كل شيء، اهدئي قليلاً كي تسمعي الحكاية ” . أما الأم الحانقة لم تكن تعي حرفاً واحداً مما كانت أبنتها تتفوه به. كانت تركز على عينيه والألم يحرقها لدرجة الموت. كانت تريد الانتقام من قاتل أبنها ومهما كلف الثمن. لم تعد تعرف معنى الرحمة في قلبها، فقدت الصفات الأنثوية منذ أن مزق الرجال الغرباء جسد زوجها أمامها وأمام أبنتيها على الرغم من مرضه. أما بعد ضياع ولدها إلى الأبد أزداد الأمر سوءاً وتحولت إلى أنثى متوحشة لا تعرف الخوف والبكاء. لقد توسلت إلى تلك المجموعة من الرجال في تلك الليلة المرعبة حينما جاءوا إلى البيت يطلبون منه أما أن يبيع لهم الأرض بثمن بخس أو يدمروا تلك الأرض بكافة السموم والمواد الحارقة لجذور الأشجار. لم يكترثوا لدموعها وتوسلاتها. ذبحوه أمامها وأمام أولادها وفروا هاربين في جنح الظلام وهم يضحكون ساخرين. تذكرت كل تلك اللحظات وهي تتقدم نحو الرجل الغريب الجالس قرب الشجرة بملابسه الملوثة بتراب أرضها التي دفع زوجها ثمناً لها. حاولت سميرة منعها من التقدم وإطلاق النار في الهواء بَيْدَ أن الأم الغاضبة دفعتها بقوة نحو الجهة الأخرى فانطلقت طلقة نارية ممزقة فضاء المنطقة واستقرت على جذع الشجرة بالقرب من رأس الرجل المسكين. أغمض عيناه بهلع. ركضت سميرة نحوه وهي تصرخ بأعلى صوتها ” .. هل أصابتك الطلقة النارية ؟” . لم يفتح عينيه من شدة الهلع والخوف. بدأت سميرة تهزه هزاً عنيفاً صارخة ” ..بالله عليك، قل لي فقط هل أصابتك الطلقة ؟ ” . فتح عيناه دون أن ينبس ببنت شفه. راحت سميرة تفحص رأسه وجسده، تنفست الصعداء أخيرا وهي تقول لاهثة ” .. الحمد لله لقد أخطأت الهدف ” . تقدمت الأم الحانقة نحو الرجل لتعيد أطلاق نيران بندقيتها. كانت مصرة على قتل الرجل مهما كّلف الأمر. وقفت سميرة بين الرجل ووالدتها وهي تقول بغضب ” .. إذا كنتِ مصرة على قتله…. اقتليني أولاً.” . نظرت الأم باندهاش إلى أبنتها قائلة ” .. لماذا تريدين إنقاذ حياته؟ انه احد أولئك الرجال الذين قتلوا والدك. هو نفس الرجل الذي قتل أمجد أبتعدي فوراً، سأطلق النار، هو يستحق الحرق وليس القتل ” . راحت سميرة تصرخ بها قائلة ” ..أنتِ الآن غاضبة ولا تعرفي ما تقولي:؟ هو الذي حاول إنقاذ أمجد وليس قتله. هذا رجل عظيم.فقط أسمعي ما أقول” . حينما سمعت الأم أسم أمجد ارتعشت يدها التي تحمل البندقية. خارت قواها تماماً. سقطت البندقية على الأرض. جلست على الأرض واتسعت عينيها. صمتت قليلاً ثم قالت بصوت مرتعش ” ..كرري ماكنتِ تقوليه..لم أفهم كلامك ” . راحت سميرة تحكي لها ما كانت قد سمعته من هذا الرجل حتى هذه اللحظة . دون سابق إنذار راحت الأم تبكي بحرقة وهي تضرب الأرض بيدها قائلة ” ..يجب أن نذهب الآن لجلب جثة أمجد..لا استطيع البقاء هنا في هذه الأرض وجثة أمجد مدفونة في مكانٍ أخر بعيداً عن هذا المكان. يجب أن أدفن أمجد بالقرب من جثة والده كي استطيع زيارتهما كل يوم. ” راحت تبكي بدموع غزيرة وصوت يحطم أقسى القلوب. امتزج صوتها بأصوات الطيور البرية التي كانت تحلّق فوقها. بدأت الأشجار تردد صدى نحيبها بألمٍ وحسرة على ذلك المجتمع البشري وتلك التناحرات الاجتماعية التي حطمت كل قيود التماسك الأخوي والبشري بين أبناء الأرض الواحدة وبدأ كل فرد يبحث عن فرصة مناسبة لتحطيم الآخرين من أجل حفنة من الدولارات أو من أجل مركز اجتماعي ضئيل لايلبث أن يزول لأنه كان قد تم تشيده على أرض هشة خاوية خالية من المبادئ الإنسانية وبعيداً عن احترام حقوق الإنسان، وبالنتيجة كل حزب بما لديهم فرحون. كل مجموعة تبحث لها عن عرين محصن في غابة غطتها كافة الأحراش والأدغال البرية التي لاتصلح إلا أن تكون وقوداً حارقة لمجتمع كبلته الويلات والإحزان والدمار في يومٍ عاصف. في فترة زمنية لايمكن أن تصلح إلا للعصابات المتوحشة وقطاع الطرق. لايدفع ثمنها إلا من كان بريئاً مسالماً لايبحث عن شيء إلا عن لقمة لأطفاله يسد بها عطشهم إلى الحياة بشتى الوسائل.

يتبع …..