23 ديسمبر، 2024 1:05 ص

العدل والملك .. الملك والعدل

العدل والملك .. الملك والعدل

بين إبن خلدون وبلند الحيدري صراع مفاهيمي في العراق. الأول الذي قال: الملك أساس العدل، ونقشتها الأنظمة السياسية التي جاءت بعده على الحجر دون ان تنقشها في القلوب والعقول، لتكون ثقافة إجتماعية سائدة تشكل حجر الأساس في أي عقد إجتماعي بين الدولة والمجتمع، تعثر بصرخة مدوية من الشاعر المنسي بلند الحيدري في حواره عبر الأبعاد الثلاثة يقول فيها: صه لا تحكي .. الملك أساس العدل.. ان تملك سكينا تملك حقك في قتلي.

وعلى الرغم من ان القاضي النبيه، البرلماني ورئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب محمود الحسن قد حاول بذكاء نادران يحسم الصراع المفاهيمي لمصلحة ابن خلدون من خلال محاولته إضفاء القداسة على مقولته وإقحامها قسرا بين دفتي النص القرآني حين نسبها، في مؤتمر صحفي، الى القرآن الكريم، على الرغم من ذلك، فان مقولة الحيدري هي التي سادت وترسخت وأصبحت قاعدة الحكم الاولى في ولايتي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي: من يملك النفوذ السياسي والحزبي يملك حقه في قتل الناس ونهب ثرواتهم. هذه هي القاعدة التي سارت عليها الميليشيات المدعومة من المالكي، وهذه هي القاعدة التي سار عليها وزراءه وأنسبائه وأقاربه وأعضاء حزبه والمقربين من حاشيته.

ووفق هذه القاعدة تم تهميش الكفاءات العراقية، وتمت تصفية بعضهم جسديا، فيما تمت تصفية بعضهم الآخر معنويا عبر فبركة الاتهامات بالفساد اليهم.

ويبدو ان حركة الاصلاح الخجولة التي يقودها رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي قد شملت ذلك الصراع المفاهيمي عبر محاولات إعادة موضعة هرم الحكم في العراق وإعادة الاعتبار لمقولة ابن خلدون على حساب مقولة بلند الحيدري. الخطوة الاولى الجادة بهذا الاتجاه تمثلت باعادة القضاء الى سكة العدالة. فقد شهد هذا الاسبوع إنجازا قضائيا مهما، هو تبرئة محافظ البنك المركزي الدكتور سنان الشبيبي ووزير الاتصالات السابق محمد علاوي من تهم الفساد المنسوبة اليهما، ما يعني فك الاشتباك بين إستقلالية القضاء وسياسة تصفية الخصوم، ولاسيما النزهاء منهم، التي لجأ اليها المالكي، خصوصا في ولايته الثانية، إذ تعد التهمة الموجهة للدكتور الشبيبي إرهاب موجه من الطغمة الفاسدة التي أحاطت بمكتب رئيس الوزراء السابق لإخضاع جميع مفاصل الدولة لمصالحها الخاصة، إلا ان تحررالقضاء من براثن هذه الطغمة جعله أكثر جرأة في تبرئة الشبيبي الذي لم يحظ أحد من

المسؤولين قبله بمثل الإجماع النخبوي والشعبي على نزاهته وحكمة إدارته لبيت المال العراقي، متمثلا بالبنك المركزي، على الرغم مما شابها من ملاحظات مهمة وخطيرة.

ولكي تكتمل دائرة التعقيم في فضاء القضاء العراقي، لابد من إعادة الاعتبار لرئيس هيئة النزاهة القاضي رحيم العكيلي الذي تلقى سهام طغمة المالكي الفاسدة وحيدا وبصدر عار، وهو لايملك في هذه المواجهة سوى تاريخه القضائي المشرف ونزاهته في إدارة هيئة النزاهة. وفي النزاهة أيضا، وهي مركز ساحة الاصلاح الحقيقي، لابد من الاستفادة من ملفات الفساد التي دأب الزميل أنور الحمداني على توثيقها وتقديمها عبر برنامجه واسع الانتشارستوديو التاسعة، وأعتقد ان من الحكمة، إذا كانت قضية محاربة الفساد من أولويات حكومة العبادي كما هو معلن، ان تشكل لجنة مشتركة من البرلمان والحكومة للنظر في الملفات الخطيرة التي فضحها الزميل الحمداني وبرنامجه، خصوصا وان معظم ضيوف البرنامج وحاملي ملفاته هم من البرلمانيين أوالمعنيين مباشرة بتلك الملفات.

المبادىء الدستورية وحدها، والتي يتمترس خلفها بعض سدنة الفساد، غير قادرة على تأسيس وحماية إستقلالية القضاء دون توافر ثقافة داعمة ومحركة لهذه المبادئ، ودون توافر حراس لهذه لمبادىء ولهذه الثقافة معا، حراس من صلب المؤسسة القضائية، فان الشعور باليأس سيكرس لجوء الناس الى المؤسسة العشائرية التي أصبحت بديلا لمؤسسات الدولة، ما يعني غياب الدولتين، دولة إبن خلدون ودولة الحيدري.

وبانتظار ما ستؤول اليه معركة العبادي الاصلاحية، وهي حامية بالفعل، سنبقى بانتظار ما سيؤول اليه أساسا الصراع المفاهيمي بين ابن خلدون الحالم بدولة العدالة، وبلند الحيدري الثائر على ظلم الدولة، ظلم يقترب من الحلم الخلدوني إذا ما تمت مقارنته بدولة المالكي، دولة النهب والفشل والقرصنة والميليشيات.