إن الشعوب الإسلامية تمر بمرحلة جديدة في تاريخها المعاصر فقد أذن الله لها بالنهوض والتخلص من الاستبداد والنظم الجيرية الدكتاتورية، وبدأت نقطة الانطلاق في تونس الحبيبة، التي سرعان ما انتقلت منها رياح التغيير لتهب على ليبيا ومصر واليمن وسورية تباعًا.
وبدأنا نرى قول الله تعالى يتحقق في حياتنا: “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ” (القصص).
تأصيل مفهوم المصالحة من فعل النبي ومن قصص القرآن:
لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن صدع بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم، وأظهره الله عليهم ويدل على ذلك مبلغ الأذى تلك الآيات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة، تأمره بالصبر وتدله على وسائله وتنهاه عن الحزن وتضرب له أمثلة من واقع إخوانه المرسلين، مثل قوله تعالى: ” وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ” (المزمل).
نعرض للقارئ بعض صور البلاء التي كانت تصر عليها قريش تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وكيف تعامل معها عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا منتصرا.
مع أبي سفيان بن الحارث ابن عمه وعبد الله بن أمية ابن عمته، فكان الأول يهجوه بشعره كثيراً، وأما الثاني فقال لرسول الله: فو الله لا أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترتقي فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك كما تقول، ثم وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهما، وقبل عذرهما، وهذا مثال عال في الرحمة والعفو والتسامح، فلم يتعلل بعظم الاساءة سواء لشخصه أو للإسلام والمسلمين، بل تجاوز ذلك بأن صفح عنهما صفحاً جميلاً كان له أثراً إيجابياً بعد أن انتشر خبر العفو بين أهل مكة، وهو في الطريق إليها.
وأما زعيم قريش الذي قاد الجيوش في أحد وفي الخندق، فقد عفا عنه وجعل له نصيباً من الفخر (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن).
لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير من الولاء الكامل للدعوة الجديدة، فكان له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة حنين، كما كان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملاً في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش وبرهن له بأن المكانة التي كانت عند قومه، لم تنتقص شيئاً في الاسلام، إن هو أخلص له وبذل في سبيله.
وهذا صفوان بن أمية، لقد حاول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمير بن وهب، ومع هذا فقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان، ثم خيره في الأمر أربعة أشهر وعمل على كسبه بإعطائه من مال العطايا الكبيرة التي لا تقدر من إنسان عادي، وقد وصف لنا صفوان بن أمية عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وانه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى أنه لأحب الناس إليَّ.
وهذا شاعر قريش عبد الله الزبعري كان من أشد الناس عداوة للإسلام وهجاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل رسول الله توبته ودخوله في الإسلام وآنسه وخلع عليه حلة، وقال بعد ذلك شعراً كثيراً يعتذر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الشعراء مثل الفضائيات في التأثير الاعلامي، ومما قال ابن الزبعري:
أيام تأمرني بأغوى خطة
سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني
أمر الغواة وأمرهم مشؤوم
فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة وانقضت أسبابها
ودعت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والديَّ كلاهما
زللي فإنك راحم مرحوم
فهذه المنهجية النبوية في التعامل مع الخصوم بعد هزيمتهم في الحرص على كسبهم والاستفادة من خبرتهم وفتح أبواب الأمل والتوبة والبناء لمستقبلهم تحتاج للتأمل والتفكر كي نستفيد منها في حياتنا.
وقد نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة، ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال” لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”. وفي رواية: فأذهبوا فأنتم الطلقاء. وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي وأصبحت الأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها.
العبِر التاريخية في العدالة والمصالحة النبوية مع أهل مكة
إن الخبرة التاريخية من فتح مكة تؤكد الفرق الواضح بين العفو والمصالحة من جهة وبين العدالة الحاسمة لفتح كافة الملفات السابقة وملاحقة كل الجزيئات مما يشغل الوطن بأسره لسنوات أو عقود لا أحد يقدر نهايتها، ثم إلى متى سنواصل تطبيق تلك العدالة بدون أي تحول تجاه الانتقام والتوسع في القصاص، مما يعود بنا من جديد لنقطة البداية، فيصبح الظالم مظلوماً يطالب هو بتطبيق العدالة الحاكمة على من كان مظلوماً وضحية بالأمس القريب، كان العفو في فتح مكة انطلاقة جديدة للإسلام والمسلمين ودعوتهم بين العالمين.
وماذا لو استسلم المسلمون لمشاعرهم البشرية الراغبة بأقل تقدير في تنزيل العدل الحاسم الذي تفصل فيه التهم وتجمع فيه الأدلة ويصبح للقضاء كلمته الأخيرة، وغالباً ما يضيق مجال الصفح بعد أن تنكأ الجراحات من جديد.
إن امتناع القيادة والأصحاب عن المطالبة بالعدالة الصارمة لغايات أسمى وأهداف أعظم كان الخيار الأصوب من الناحية السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية والدينية، فمن الناحية السياسية يحفظ العفو الجميل وحدة الأمة السياسية حيث يركز على حركة ما بعد العفو على تصحيح الأخطاء وتقوية الدولة وإشراك الجميع دون إقصاء، وتعميق مفاهيم الشراكة والتعاون والتعايش وتثقيف وتنشئة الأجيال عليه.
وأما من جهة الأمن فإن العدل الحاسم قد يقود إلى رفض بعض من سيمسهم هذا العدل بسبب مخاوف من نتائجه التي قد تكون سلباً للحياة أو الأموال والنفوذ وهو ما لن يقبله الكثير ممن كان مع النظام سابقاً.
وأما من الناحية الاقتصادية، فإننا لن نختلف كثيراً في تلمس ما يترتب على رفض العفو والمصالحة والتغافر من آثار على الوطن والمواطن بعدما يتخندق المتخاصمون وتنطلق مدافع الحرب. وأما الاعتبارات الاجتماعية، فإن العفو العام يزيد بلا شك من تآلف مكونات ووشائج المجتمع المتنوعة ثقافياً ولغوياً وعرقياً ودينياً في حال اختلاف الأديان. وهذا مقصد بعيد المدى يجب التفكير فيه بدلاً من الإصرار على طريقة تنتهي إلى التنافر وتمزق مكونات المجتمع وإعادة تخندقها خوفاً من الانتقام باسم العدالة.
وأخيراً لا آخراً، فإن العفو يصنع خبرة تاريخية تتأسس عليها ثقافة الأجيال، الأمر الذي يوحد ضمير الوطن ويزيد من مساحات التعايش والقبول بالاختلاف وتتعمق ثقافة تقديم المصلحة العامة على الخاصة، والممتدة على الآنية المؤقتة.
وأما في القرآن الكريم فقصة يوسف عليه السلام مثل رفيع، وقدوة حسنة، في التغلب على التقاطع وآلام الماضي وأحزانه، فلما اعترف اخوة يوسف بتفضيل الله له وأقروا بخطئهم وقدموا له المعذرة وشعروا بعظم الذنب قال لهم يوسف عليه السلام ” لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” (يوسف).
لا تثريب عليكم: أي لا لوم ولا تعنيف “عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ”، ويتنازل عن كل حق له ويأبى خلقه الكريم في ذلك اليوم الذي قدر فيه العفو حتى عن مجرد توجيه اللوم إلى الذين ألقوه في غيابة الجب، إن اليوم في نظره أولى أن تبدأ به صفحة جديدة من الصفا والمودة، وفي مجرد توجيه اللوم، عودة إلى الماضي البغيض، وإحياء له، وهذا يتعارض مع الصفحة البيضاء النقية التي يريد أن يبدأ بها هذا اليوم.
لقد مرت تلك الأيام المتعبة بخيرها وشرها، فيجب أن يسدل الستار على حلوها ومرها ولم يبق إلا أن يطرد أشباحها المروعة عن مسرح الخيال، ويتحاشى المطالعة في ذلك التاريخ المظلم، فقد طوى سريعاً هذه الصفحة السوداء مما كان بينه وبين إخوته وغطى على آثارها بالصفح الجميل.
لقد عفا عفواً تاماً من غير تعبير لهم عن ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة وهذا نهاية الاحسان الذي لا يتأتى إلا من الخواص، وما أنسب ما وقع من يوسف بالمراتب الثلاثة المذكورة في قوله تعالى: ” وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”(آل عمران).
إننا في وطننا اليوم بحاجة إلى أن نتماسك ونتغافر، لنؤسس ونمهد لخبرة العدل في إحقاق الحقوق والقسط في مراعاة المشاعر والعفو والتسامح لفتح شموس الآمال وصروح البناء التي ستتحول إلى مناهج للتعليم وموجهات للفكر، ومحددات للثقافة وإطار لبناء دستور الدولة التي لا يقوم على الاقصاء والانتقام واللمز، كما هو واقع الحال في بعض الدساتير التي تغلبت نزعة الانتقام على واضعيها.
مراجع:
ابن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت.
أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، مكتبة دار الفكر.
علي الصلابي، العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية، إستانبول، دار الروضة، 2018.