ألقى ما سمي بقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب “جاستا” بظلاله على معظم قضايا منطقتنا بعد أن شاعت حوله الشائعات وكثر الحديث عن آثاره الدولية المترتبة على أحكام تصدرها المحاكم المدنية الأمريكية والتي يمكن أن تطال أية دولة بصرف النظر عما يروج له اليوم من كون القانون يستهدف بالأساس المملكة العربية السعودية، والذي اعتبرته الكثير من الأوساط السياسية والقانونية كسابقة خطيرة في إطار استهداف الدول عبر محاكم غير دولية لم تكن تمتلك حق النظر بقضايا عابرة للحدود الأمريكية.
أضفى الغموض بتفاصيل بنود القانون بعض العتامة في آلية تنفيذ قانون كثر الجدال فيه، حتى جاء رفض الكونغرس الأمريكي لفيتو الرئيس باراك أوباما الرافض للقانون كسابقة أخرى زادت من الأمر عتمة وغموضا، في قضية هي الأعقد على المستوى الدولي بين حليفين لطالما خاضا معارك “التحرير” الأمريكي، وتشاركا المعلومات الإستخبارية حول المنظمات الجهادية “سابقا” والإرهابية “حاضرا”، فجاء القانون في مظهره لمقاضاة ذات الدولة الحليفة التي طالما تحملت عواقب كوارث قرارات أمريكا الجائرة بحق دول وشعوب المنطقة.
وبالدخول لتفاصيل القانون الذي تم الكشف عنها مؤخرا فإن القانون جاء تعديلاً على قانون مشابه صدر في العام 1967 ويعطي الحصانة لبلدان أخرى من الملاحقة القضائية في الولايات المتحدة، وبينما لا يشير القانون صراحة إلى السعودية، فإنه يخوّل ما بين سطوره ذوي ضحايا هجمات الحادي برجي التجارة الدولية من رفع دعاوى بحق السعودية كبلد دعم بشكل مباشر أو غير مباشر المجموعة التي نفذت العملية صبيحة الحادي عشر من سبتمبر.
المهم في القانون ومن وجهة نظر العديد من الدول المستهدفة وغير المستهدفة على حد سواء إنه يأتي مخالفا لقوانين حكمت العلاقات الدولية منذ القدم، ويضعف الحصانة السيادية التي تعتمد عليها الدول بعلاقاتها الثنائية، وتؤثر بشكل سيء على جميع الدول، بل ولا تستثنى الولايات المتحدة نفسها من آثاره الجانبية، حيث لازالت تفاعلات تدخلاتها وحروبها السيئة ماثلة للعيان في المنطقة العربية وغيرها من دول العالم .
يستبعد الكاتب الأمريكي نوح فيلدمان في مقاله فرضية قدرة عوائل ضحايا الحادي عشر من سبتمبر من الحصول على حقوقهم من المملكة العربية السعودية في المحاكم الأمريكية، وبنا فرضيته على قضايا سابقة لم يكتب لها النجاح بسبب بنود في الدستور الأمريكي تعتمد على ضرورة توفر أدلة أو إثباتات قانونية تشير بقصد لإلحاق الضرر المتعمد من قبل أطراف أو أفراد بأشخاص يقطنون في ولايات أمريكية خارج نطاق المحاكم التي تنظر في الدعوى القضائية، وربط الكاتب بين هذه القضايا وبين الاتهامات الموجهة للسعودية، حيث أشار إلى إن من الصعوبة على عوائل الضحايا إثبات إن السعودية قامت بدعم تنظيم القاعدة عن سبق إصرار وتعمد بقصد إلحاق الضرر بمدينة نيويورك، في إشارة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وبغض النظر عن رسالة الطمأنة بين ثنايا مقالة فيلدمان، فإن المحاكم الأمريكية قد اتخذت بالفعل أحكام الغرامة بمليارات الدولارات ضد إيران بسبب مسؤوليتها الغير مباشرة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقبل أن يتم تشريع القانون المثير للجدل، وبالتالي يستبعد هذا الإجراء القانوني الفرضية التي بناها فيلدمان على قضايا داخلية ضعيفة بالمقارنة مع متطلبات السياسة الخارجية الأمريكية والتي استدعت تدخل الكونغرس الأمريكي ليصوت عليها بأغلبية 97 صوت مقابل واحد.
وبمراجعة سريعة لبعض ما تم الكشف عنه من بنود القانون، فإن المادة الأولى جاءت لتعريف أسم القانون، والمادة الثانية لتوضيح فقراته، ونصت المادة الثالثة على تعريف المنظمات الإرهابية وطريقة جمعها وتوظيفها للأموال مستهدفة بذلك الولايات المتحدة الأمريكية، والمادة الرابعة لمعرفة الأسباب الموضوعية وأبعاد المسؤولية القانونية حول الأفعال التي تحض على التآمر، والمادة الخامسة تنص على جلب الأشخاص والجهات والدول التي تنشط بمجال الإرهاب للمثول أمام المحاكم الأمريكية للرد على أسئلة حول تلك الأنشطة، المادة السادسة اعتبرت إن من مصلحة أمريكا المساعدة بتوفير الدعم للأشخاص والجهات لرفع الدعاوى القضائية حول العمليات الإرهابية داخل الولايات المتحدة.
وبعيدا عن الفخاخ المنصوبة بين ثنايا بنود القانون فإن هنالك بندا يمكن من خلاله فك طلاسم القانون المثير للجدل، حيث منح القانون المحاكم الأمريكية حق وقف الدعاوى ضد أي دولة أجنبية إذا ما شهد وزير الخارجية بأن الولايات المتحدة تشارك بنية حسنة مع الدولة الأجنبية المدعي عليها بغية التوصل إلى حلول للدعاوى المرفوعة ضد الدولة الأجنبية أو أي جهات أخرى مطلوب إيقاف الدعاوى المرفوعة بشأنها، وهذا بحد ذاته يمكن اعتباره ورقة الضغط الأخطر على الدول التي تتمادى بمواقفها السياسية أو الاقتصادية وبما لا يتماشى والرؤية الأمريكية، والتي تضع الدول المستهدفة أمام أمرين أحلاهما مر.
ختاما، يمكن تلخيص دوافع صدور مثل هذا القانون بمحاولة أخيرة لكبح جماح الدول التي تفكر بالخروج عن القاطرة الأمريكية التي بدأت خطواتها بالتباطؤ بعد عدد من الانتكاسات والإخفاقات التي بدأت بالعراق ولن تنتهي في سوريا، وكذلك لضمان بقاء رؤوس الأموال داخل الولايات المتحدة في وقت يتوقع فيه انتقالها إلى أسواق أكثر ضمانا وانفتاحا، وهو ما سيترتب عليه الكثير من التداعيات السياسية والاقتصادية وسط عدم يقين دولي من توفر حلول لكثير من القضايا الدولية العالقة، والتي لازالت الولايات المتحدة تشكل عقدتها الرئيسية.