23 ديسمبر، 2024 6:56 ص

العدالة الانتقالية ومصادرة الأراضي

العدالة الانتقالية ومصادرة الأراضي

يعد القرار ( 117 ) لسنة 2000 م، من جملة القرارات القاسية التي اصدرها النظام السابق؛ لتضمينه مواد أجازت للدولة صلاحية مصادرة عقارات الناس وتوزيعها على العسكريين بشكل قطع سكنية مقابل تعويضات زهيدة، رفض أغلب أصحاب العقارات المصادرة استلامها. إذ أن عملية توسيع المدن السكنية في أغلب دول العالم تقوم  آلياتها على إفراز الأراضي الزراعية وتسجيلها باسم أصحابها، بعد تحويل جنسها إلى سكني. وهو الأمر الذي يفضي إلى حل مشكلة الإسكان من خلال المساهمة في إقامة وحدات سكنية، من دون الإضرار بمصالح الناس. إلا أن ما جرى في عهد النظام السابق كان مخالفا لما أشرنا أليه فيما تقدم، حيث تم الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي مقابل تعويض اصحابها بمبالغ بسيطة. 
  ولا يخامرنا شك في أن حكومتنا المنتخبة ما تزال تعمل جاهدة من أجل إعادة حقوق الشعب العراقي المغصوبة؛ لإنقاذه من ظلم العقود الطويلة الذي تعرض له، ما فرض عليها اعتماد مبدأ العدالة الانتقالية الذي تجسد في إقرار حقوق الشهداء وتعويض السجناء السياسيين والمفصولين، فضلا عن الذين صودرت ممتلكاتهم من قبل النظام السابق. إلا أن المواطنين المصادرة اموالهم بموجب القرار 117 لسنة 2000 م،  حرموا من التعويض العادل الذي يحققه مبدأ العدالة الانتقالية ؛ جراء حدوث خطأ تسبب في عدم وصول الحكومة  إلى طي هذه الصفحة المؤلمة من تاريخ شعبنا ، فما الذي حدث ؟.
   إن الجواب على هذا التساؤل يستمد مقوماته من مضامين الرسائل الكثيرة التي وصلتني من أصحاب الشأن عبر بريدي الإلكتروني في أعقاب نشر موضوعي السابق الموسوم ( القضاء العراقي وصبر المواطن )، ومن جملتها أن بعض المواطنين قاموا بشراء أراضي زراعية بمناطق عدة في العاصمة بغداد، مثل الزعفرانية، وبزايز الفضيلية، والبساتين، والشعب وغيرها من المناطق؛ على أمل إقامة منازل عليها، لإسكان عوائلهم، غير أن مجلس قيادة الثورة ( المنحل ) أصدر في ثمانينات القرن الماضي القرار ( 581 ) الذي أدى إلى منع إقامة الوحدات السكنية على هذه الأراضي من قبل أصحابها، على الرغم من افتقاد صفتها الزراعية منذ سنوات طويلة، ما أفضى إلى جعل حق التصرف بهذه الأراضي لأغراض البناء معطلا، حتى جاء القرار 117 لسنة 2000 م، فاستحوذت الحكومة على هذه الاراضي بشكل غير مشروع وسجلتها باسم أمانة بغداد. إضافة إلى ما جرى الاستيلاء عليه في  محافظات البلاد الأخرى وسجل بأسماء البلديات في المحافظات،  ثم ما لبث أن جرى توزيعها بشكل قطع سكنية على منتسبي القوات المسلحة. واللافت للانتباه أن اجزاء عديدة منها لم يتم توزيعها، فاستغلت أمانة بغداد ملكيتها غير المشروعة لها، وقامت بعد عام 2003 م بتوزيعها على جهات أخرى، ومنها موظفيها الذين وزعت عليهم قطع سكنية  في الزعفرانية هي اصلاً مصادرة من أصحابها بموجب القرار ( 117 ).
  ومن الأهمية الإشارة هنا إلى رسالة المواطن ( س ) المتضمنة شرائه في سبعينيات القرن الماضي ( 200 ) متر مربع حق التصرف في أرض زراعية، بغية إقامة  منزل عليها يأويه مع عائلته، غير أن أرض هذا المواطن صودرت، ومنحت للعسكريين مقابل تعويض مقداره ( 15 ) الف دينار عراقي عن قطعته، إلا أنه رفض التعويض ولم يستلمه . وفي أعقاب التغيير السياسي عام 2003 م، قام هذا المواطن بمراجعة الدوائر المعنية، فتمت احالته إلى هيئة دعاوي الملكية، وبعد سنوات من المراجعات والجلسات والتمييز، تم تقدير قيمة أرضه عام 2012 م بمبلغ نصف مليون دينار عراقي تقريباً، في حين أن سعرها الحقيقي في سوق العقارات يصل إلى ( 200 ) مليون دينار. والغريب أن إجابة المحكمة على استفساره عن سبب هذا التقدير المجحف بحقه الذي لا يمكنه الحصول على قطعة أرض في بغداد بهذا السعر، هي أن هذا التسعيرة تم إقرارها بالاستناد إلى تقييم سعر الذهب، فأجابهم بسذاجة وما علاقتي بالذهب، حيث أن الحكومة صادرت مني ارضاً وليس ذهباً!.
  وبعد أن أصبحت هذه الأراضي دوراً مشيدة يسكنها مواطنون عراقيون يشعرون أنها مصادرة من اصحابها، إلا أنهم يلقون بالعبء الشرعي على عاتق الدولة التي يفترض أن تتبنى آليات تنصف المتضررين بقيمة التعويض الذي كان عمليا مفاجئة للجميع!. إذ أن المنطق السليم يلزم الحكومة تعويض الشخص الذي صودرت أرضه ( أو من تم الاستيلاء على أرضه للصالح العام ) عن قيمتها بالأسعار السائدة  في وقت دفع التعويض. وضمن هذا السياق يؤكد كثير من القانونيين أن هذه المشكلة يمكن معالجتها بسهولة خارج أسوار هيئة دعاوي الملكية؛ بالنظر لعدم وجود نزاع بين المالكين الحاليين والسابقين لهذه الأراضي التي جرى مصادرتها وتوزيعها قطع سكنية، حيث يمكن أن تصدر الحكومة قراراً منصفاً بدفع تعويضات للمالكين السابقين، بالاستناد إلى تقييم سعر هذه الأراضي في الوقت الحاضر، فمن كانت أرضه ملكاً صرفاً يستلم مبلغ التعويض كاملاً، اما من كانت أرضه ( حق تصرف ) فيستلم حصته المقررة قانوناً من الملكية التي تتراوح بين الثلث والنصف.
   دعوة مني الى دولة رئيس الوزراء والحكومة العراقية عموماً لطي هذه الصفحة بشكل نهائي، والمساهمة في إعادة حقوق الناس المغتصبة منذ اكثر من ( 13 ) سنة من خلال إقرار هذه التعويضات ودفعها للمالكين السابقين الذين يواجهون ظروفاً معيشية وسكنية صعبة وهم يرون أراضيهم مسكونة من  قبل غيرهم.
في أمان الله.