كثيراً ما نسمع عبارات من قبيل: “آني شعليه” او “هو الوضع خربان” “شنو فائدة التظاهر؟” او شنو فائدة القراءة والكتب؟” هذه العبارات لم تأتِ من فراغ، بل لها منشأ ثقافي وتربوي واجتماعي، أسهم في بروز هذه الروح العاجزة.
يقول عالم الاجتماع هشام شرابي: “ان المسألة ترتبط بتنشئة الطفل لدينا في الثقافة العربية، حيث يتعلم الطفل من خلال تعامله مع ذوي السلطة في بيئته (الأب والام والخال والمعلم) اولاً: كيف يقمع عدوانيته تجاه السلطة، وثانياً: كيف يتحاشى مواجهتها، وهذا بالضبط ما يؤدي الى الاتكالية والخنوع”؟.
هذا العجز يحاول الفرد تبريره من خلال منفذ ديني او نفسي، لذلك تراه يقول “ربّك كريم” او يرمي فشله في ساحة القدر، ويبرر التراجع بأنه نتيجة “غضب الهي حل علينا !” هذه الحالة تبرز اولاً حاجة الفرد الى مخدر ديني ونفسي، وايضاً تعبر عن شكل من أشكال العجز والاتكالية.
على الرغم من ان الدين الاسلامي يحث على رفض الظلم والتعاون الجماعي، كما تقول الآية الكريمة (وتعاونوا على البر والتقوى)، لكن تجد ان السمة الابرز في الثقافة والشخصية والعراقية هي الفردية الانانية على عكس الفردية الحداثية في الغرب.
وأسهمت التنشئة في الأسرة والتعليم المدرسي، بخلق جيل من الشباب يفضّل التفرج، وتوكيل شؤونهم العامة الى الأكبر سناً، هذا النوع من التربية أنتج افرادا منسلخين عن مجتمعهم، ولا يشعرون تجاهه بأي التزام، الا بما يتعلق بمصلحة الفرد الشخصية. فهو يعدّ المجال العام شيئاً بعيداً عنه وخارج قدراته على التأثير، لذلك تراه يهتم بنظافة بيته وترتيبه بينما يرمي الأوساخ في الشارع! لأن الشارع لَيْس ملكه وهذا يعبر عن جرح في الوعي الوطني.
والمصيبة الأكبر ان ينتقل العجز النفسي الى المثقف والأكاديمي الذي يعوّل عليه كمشعل للتنوير والقيادة، هذا المثقف وقع ضحية خذلان المجتمع ومواجهة السلطة البيروقراطية، اذ أسفرت هذه المواجهة عن دحر حقيقي وشبه نهائي للمثقفين، وخرج هؤلاء من المعركة مثخنين بالجراح، ومشبعين بالضغائن والاحقاد التي خلفها استشهاد بعضهم وتخاذل بعضهم الاخر، وتهافت البعض الثالث على موائد السلطات المحلية والخارجية.
وقد وصلت المِحنة بالمثقفين الى ان يفقدوا ثقتهم بأنفسهم ويعلنوا انسحابهم الفعلي من الحياة السياسية والمشاركة في النشاطات العامة. وانعكس ذلك في سلوكهم وخطابهم الجديد السائد الذي تحول تدريجياً من خطاب عظمة وفصام مع الواقع الى خطاب مضمونه الرئيس جلد الذات وتعذيب النفس والاعتراف بالعجز!.
ولكن أن هل العجز في الشخصية العراقية سببه الاسرة والمؤسسة التربوية فقط؟ كلا، فهناك عوامل تاريخية – سياسية لها تأثير كبير ايضاً، مثل ما ذهب الى ذلك المفكر العراقي (كنعان مكية) في الفرضية المهمة التي طرحها وهي فرضية القسوة والصمت، اذ يعتقد مكية ان الثنائية التي نهض عليها الاستبداد السياسي (حزب البعث) وتغذت بها اعمال الاعتداء على حقوق الانسان هي ثنائية القسوة والصمت التي بموجبها يغض البعض أنظارهم (الصمت) عن البشاعات التي تنزل بالشعوب والافراد والنساء والاقليات (القسوة).
ومن ثمّ، اصبح الفرد يواجه الحياة بصورة دفاعية ويتحمل آلامها بهدوء وكبت داخلي، وبدأ المجتمع حسب رأي المفكر هشام شرابي: “يقضي ان تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام، وروح المكر محل روح الشجاعة، وروح التراجع محل روح المبادرة”.
نقلا عن صحيفة المدى