يدافع العبيد عن اسيادهم الفاسدين، بطريقة تنطوي على الكثير من التحايل والتدليس. على سبيل المثال قولهم، ان الفساد ظاهرة طبيعية، تعم دول العالم دون استثناء، وليس العراق وحده. وهذه مغالطة مفضوحة. فالفساد في الدول الأخرى، ومنها دول الجوار، مثل تركيا وإيران والسعودية والأردن، هو فساد فردي وغير منظم، ويمكن السيطرة عليه واحتواؤه ومعاقبة الفاسدين، بصرف النظر إذا كان هذا الفاسد رئيسا للدولة او وزيرا او موظفا عاديا. حيث لم يؤثر هذا النوع من الفساد على تقدم هذه الدول وازدهارها، في كافة المجالات، الصناعية والزراعية والصحة والتعليم والامن والاستقرار. في حين ان الفساد في العراق، قد جعل من العراق دولة متأخرة في جميع المجالات. حيث يستورد العراق كل ما يحتاجه الفرد العراقي، حتى اهم المقومات الضرورية للحياة مثل الماء والكهرباء والدواء والمنتجات الغذائية.
ان الفساد في العراق، قد شمل جميع مؤسسات الدولة، من اعلى سلطة فيها، مثل الحكومة ومجلس النواب والقضاء، الى أصغر سلطة مثل مدير دائرة حكومية او مدرسة او موظف متنفذ. ولم يفلت من الفساد المؤسسات العسكرية والشرطة وأجهزة الامن. بل شمل اعضاء لجنة النزاهة، التي من المفترض فيها كشف ملفات الفاسدين وتقديمها الى المحاكم لينالوا جزاءهم العادل. ولذر الرماد في العيون، نشهد بين آونة وأخرى معاقبة مسؤول صغير او مهرب او تاجر مخدرات.
ولتأكيد هذه الحقيقة، نورد اعترافات رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي. حيث قدم علنا ومن منصة مجلس النواب، أربعين ملفا للفساد. ووضع عنوانا لكل ملف من هذه الملفات: تهريب النفط ، العقارات، المنافذ الحدودية، تهريب الاموال، الجمارك، تهريب الذهب، السجون ومراكز الاحتجاز، تجارة الحبوب والمواشي، التهرب من الضرائب، الاتاوات والقومسيونات، تهريب العملة، ملف التقاعد، المخدرات، ملف الشهداء، التجارة بالأعضاء البشرية، تجارة الاسمدة والمبيدات، تسجيل السيارات، التجارة بالعملة الاجنبية، بيع وشراء السيارات، الاقامة والسفر، الادوية، سمات الدخول، البطاقة التموينية، الرعاية الاجتماعية، الكهرباء، التعيينات وبيع المناصب، تهريب الحديد والسكراب، الامتحانات وبيع الاسئلة، القروض المالية والسلف بدون غطاء، الاتصالات والتلفونات وشبكات الانترنيت، ملف النازحين. إضافة الى ذلك أعلن عن فقدان 300 مليار دولار من خزينة الدولة خلال سنوات الاحتلال. اي بمعدل 20 مليار دولار سنويا.
ولتكريس هذا الفساد، أشرف على ادارته، ما سمي بالدولة العميقة، التي يتولى قيادتها نوري المالكي، وبمباركة من المحتل الأمريكي ووصيفه الإيراني. وقد وصف خطورة هذه الحكومة الأستاذ الدكتور حسين عليوي ناصر الزيادي، في كتابه الفساد المالي والإداري في العراق، والموثق بالأدلة والأرقام، ومن المصادر العراقية نفسها. حيث ذكر بان ” الحكومة العميقة هي من أهم مظاهر الفساد السياسي في العراق، إذ تسهم الأحزاب والحركات فيها بزرع عناصرها في مفاصل الدولة المهمة، لتضمن ولاء تلك المؤسسات لها. ولا تقتصر الحكومة العميقة على وجود موظفين يسيطرون على مواقع السلطة، ويأتمرون بأوامر شخص من خارج الدولة، إنما هي فكر ممنهج، ينتمي له من اختيروا لهذه المناصب، فيتصرفون بطريقة واحدة، مباشرة أو غير مباشرة، لخدمة ذلك الفكر الذي اصطفاهم لهذه المناصب. كرد للفضل والإحسان”.
ويضيف مؤلف الكتاب حقيقة مهمة مفادها “ان رموز الفساد السياسي في العراق، قد طوروا من أساليب العشوائية غير المنتظمة للفساد، إلى أساليب علمية ممنهجة ومنظمة ومدروسة بعناية فائقة. الامر الذي يعقد من طرائق اكتشاف الفساد وملاحقة مرتكبيه قانونيا. وبذلك اكتسب هؤلاء الفاسدون قدرات وخبرات، تمكنهم من الإفلات من اية محاسبة او على الأقل تمكنهم من تضليل الجهات المعنية”.
أيضا الفساد في العراق يستند على أسس معقدة غير اعتيادية، كونه يرتبط بصورة جدلية بالوضع السياسي القائم، ناهيك عن ترابط منظوماته وتعدد مستوياته واتجاهاته، الامر الذي أدى الى سرقة عشرات المليارات سنوياً من قبل هؤلاء الفاسدين، دون ترك دليل يدل على الجريمة.
اما المصيبة الأكبر، فان الفساد في العراق تحميه عملية سياسية فاسدة ودستور ملغوم وقضاء مرتش ومحاكم مسيسة. بالإضافة الى دعم كبير من الدول المحتلة ودول الجوار، التي تعمل بكل ما تمتلك من قوة لأضعاف العراق. ناهيك عن جيوش من المليشيات المسلحة، التي بالمجمل تأخذ توجيهاتها، اما من إيران او أمريكا. وهذه المليشيات مستعدة للقتال ضد اية محاولة لأنهاء الفساد فهي تستهدفها قبل غيرها.
على ارض الواقع، ترك الفساد اثاره الواضحة، التي لا تقبل الشك او التأويل. حيث دمر الفساد ما تبقى من مؤسسات الدولة وهدم بناها التحتية، وشوه علاقاتها الاقتصادية، وخرب منظومتها التعليمية والصحية، وشوه قيم المجتمع وحط من اخلاقه الحميدة التي تربى عليها. في حين انتشرت السرقة وغسيل الأموال والرشاوى والاختلاس والتزوير والتهرب الضريبي وتخصيص الأراضي والمحاباة والمحسوبية، واغراق البلاد في المخدرات وحبوب الكريستال وغيرها.
ان الذين ينكرون هذه الحقائق او يحاولون تبريرها، ويطالبون في الوقت نفسه، بمنح السوداني مزيدا من الوقت، لتنفيذ برنامجه الإصلاحي، يكذبون على الناس وعلى أنفسهم. فالسوداني نتاج عملية سياسية فاسدة، مهمتها الأولى والأخيرة تدمير العراق دولة ومجتمعا. وحتى إذا صدق هؤلاء الكذبة، فان برنامج السوداني للإصلاح سيصطدم بسلوكيات الحاكمين في المؤسسات والجهات الرسمية وغير الرسمية، وهذه جميعها دون استثناء ينخرها الفساد من القمة الى القاع، بل ان هؤلاء الحكام الذين يشغلون المناصب السيادية والدرجات الخاصة والقضاء والمحاكم، قد تم اختيارهم من قبل المحتلين من بين أشهر الفاسدين في العراق.
هذه الحقيقة اكدها الحاكم المدني للعراق بول بريمر، في وصاياه العشرة لخلفه نغروبونتي ، حيث قال في الوصية الأولى “بأن هؤلاء الذين اويناهم واطعمناهم واصبحوا حكاما، نصفهم سراق والنصف الاخر كذابون. وفي الوصية الأخرى ذكر “هؤلاء يؤمنون بأن الاحتيال على الناس ذكاء، والاستحواذ على أموال الغير واغتصاب ممتلكات المواطنين غنائم حرب، لذلك هم شرهون بإفراط تقودهم غرائزية وضيعة، وستجد أن كبيرهم كما صغيرهم كذابون ومنافقون، المعمم الصعلوك والعلماني المتبختر سواء بسواء، وشهيتهم مفتوحة على كل شيء: الاموال العامة والاطيان، واقتناء القصور، والعربدة المجنونة”
اما وصيته الأخيرة، فقد استدرك فيها بقوله، “ولكن وعلى الرغم من المحاذير والمخاوف، فأنني أنصح وأؤكد على ألا تفرّط بأي منهم لأنهم الأقرب إلى تنفيذ مشروعنا وضمانةً مؤكدة، لإنجاز مهماتنا في المرحلة الراهنة، وإن حاجتنا لخدماتهم طبقا لاستراتيجية الولايات المتحدة، مازالت قائمة، وقد تمتد إلى سنوات أخرى قبل أن يحين تاريخ انتهاء صلاحيتهم الافتراضية، بوصفهم مادة تنفيذ لم يحن وقت رميها أو إهمالها”.
لقد أدرك عموم العراقيين، هذه الحقائق، على الرغم من الضجيج الإعلامي الهائل، الذي روج للسوداني كمنقذ. كما أيقنوا بعدم قدرة السوداني على الإصلاح. حيث أصبحت لديهم خبرة واسعة بهؤلاء الأشرار وكشف اكاذيبهم حول الإصلاح. خاصة وان رؤساء الحكومات السابقة، الذين مارسوا مثل هذه الاكاذيب انتهت ولايتهم والفساد ازداد انتشارا.
يضاف الى ذلك، لم يقدم السوداني فاسدا واحدا من الحيتان الكبار للمحاكم. ولا من رموز الفساد المالي او الإداري، ولا من رموز الفساد السياسي، ولا من قادة الدولة العميقة. وحتى الحرامي نور زهير، الذي سرق ثلاثة مليارات دولار، حسب اعلان رئيس الوزراء بالصوت والصورة، وسماها بسرقة القرن، قد أطلق سراحه بعد عدة أيام، وأعاد له القضاء الاعتبار، والسماح لشركاته الكبيرة بممارسة اعمالها لسرقة المزيد.
تأسيسا على ما تقدم، فان القضاء على الفساد من قبل حكومة السوداني، التي هي نسخة طبق الاصل من الحكومات السابقة، سيكون امرا مستحيلا. وبالتالي فالإصلاح الجدي لن ير النور قبل اسقاط العملية السياسية، بما تتضمنها، من حكومة وبرلمان وقضاء ودستور، والاتيان بحكومة وطنية مستقلة. خاصة وان جميع المحاولات لإصلاح العملية السياسية قد فشلت، سواء تلك التي أتت من داخلها، لأسباب تتعلق بامتصاص الاستياء الشعبي والخشية من تطوره الى ثورة شاملة، او من قبل القادمين الجدد للعملية السياسية في كل دورة انتخابية. وقد نجد نموذجا صارخا عن ذلك، فشل من ادعوا، زورا وبهتانا، تمثيلهم ثورة تشرين. فبعد فوزهم بالانتخابات الأخيرة، انضموا على الفور الى جوقة الفاسدين. مثلهم كمثل الذين سبقوهم بدخول العملية السياسية، تحت ذريعة الإصلاح وعدم ترك الساحة للفاسدين.
البديل هو ما اقرته القوانين السماوية والوضعية، التي منحت الشعوب حقها، باستخدام الوسائل الكفاحية كافة، من اجل التحرر والاستقلال وبناء بلدانها والتمتع بخيراتها. وقد مارس الشعب العراقي هذا الحق منذ اليوم الأول للاحتلال، وسينتصر، كما انتصرت الشعوب الأخرى. ومن يشكك في هذه الحقيقة، او يقلل من شانها، يخدم المحتل ويسهل عليه تكريس مشروعه التدميري الى عقود طويلة من الزمن.