23 ديسمبر، 2024 5:11 ص

العبث واللاجدوى في سلوك الانسان

العبث واللاجدوى في سلوك الانسان

ان اخطر ظاهرة سلوكية يمكن ان تهدد الانسان هي الاحساس بالعبث وباللاجدوى في الحياة. وبادئ ذي بدء، يجب ان نفرق بين اللاجدوى والعبث. فالعبث هو ادراك مبكر لفوضوية الوجود وتمزق الذات منذ البداية، لكن اللاجدوى هي ناتج سلبي من نتائج الجدوى والامل الخائبين. فعندما ينشأ الانسان يافعاً وهو على حالة من العبث واللامبالاة بكل موقف وجودي جاد، فهو الانسان العبثي لكن الانسان الذي ينشأ صارماً متشدداً وصاحب قضية ورؤية ، ثم تواجهه ظروف احباط مرة، فيميل الى اليأس من تحقيق ما صبا اليه وراهن فيه على كل مقدراته، فهو الانسان الذي ادركته حرفة اللاجدوى، معنى هذا ان العبث يمكن في اغلب حالاته ان يكون فطرة ووراثة، لكن اللاجدوى لا يمكن ان تكون الا مكتسبة. معنى هذا مرة اخرى، ان اللاجدوى هي موقف من المواقف له اسبابه وحالته التي يعيش بها وماله الذي ينتهي اليه.
وقد لا يقود العبث الى الانتحار لأن صاحبه لا يملك اصلاً ما يموت من اجله فيما يقود الاحساس باللاجدوى في كثير من حالاته الى الانتحار حين يصبح قهر الموقف اكبر من قدرة الانسان على المواجهة.
ان اللاجدوى صورة من صور اليأس، لكن العبث قد لا يكون يأساً لاعتقاد صاحبه بأنه هو هكذا وبأنه يجب ان يقنع بأنه هكذا.. وفي مجالات العلوم والاداب والفنون، يفترق مفهوم اللاجدوى، فالعالم محكوم بهاجس محاربة اللاجدوى لانه انسان تطبيقي وتنفيذي رهين بالقياس والنتائج التي تحمل واحداً من اثنين: نعم او لا. والشاعر في اغلب حالاته محكوم بأن يحمل شيئاً من اللاجدوى لكي يعيش فن الشعر بعيداً من واقعيته.
ان اكبر قصيدة هي قصيدة اللاجدوى، لكن اكبر تجربة في المختبر هي التجربة ،المواجهة لمفهوم اللاجدوى. معنى هذا، ان العلم هو الجدوى وان الشعر هو اللاجدوى.
اننا هنا لا نعني الشعر التقريري الواضح في اهدافه ومناسبته، فلهذا النوع من الشعر واقعية وامل وهدف تقع في مضمون الجدوى، لكن شعر الرؤية والحدس والتشوف الغيبي واستكناه الميتافيزيقيا هي شعر اللاجدوى لانه شعر الصورة الفنية، ويقع الفن في اللاجدوى مثل وقوع الشعر فيه.
احاول ان اكون اكثر وضوحاً، فأقول: ان شاعر اللاجدوى هو شاعر الامل في غائب لا يتحقق حضوره، وان فنان اللاجدوى هو فنان الامل في تطلع لا يراه قريب التحقيق. ان ادباء الامل اكبر من ادباء الواقع، لان الامل اصلاً اكبر من الواقع.
قلنا آنفاً.. ان اللاجدوى هي صورة من صور اليأس، فكيف يكون شاعر اللاجدوى وفنان اللاجدوى شاعر امل وفنان امل على التوالي؟
انني ارى في اقسى حالات اليأس أملاً، لان اليأس من شيء في الواقع يحيل الى امل في شيء آخر، لذلك تجد اليائسين من الواقع هم الحالمون بمرحلة ما بعد الواقع، وفي احلامهم يحققون ما عجزوا عن تحقيقه في الواقع.
ان هذا لا يحدث للعالم لانه عنصر مواجهة مع الواقع، ينجح بنجاح مهمته ويموت بموتها. وحينما تفشل التجربة عند عالم فان الذي يفشل هو التجربة وليس المجرب. معنى هذا ان فن العالم وفلسفته هما اللذان يدفعان الى الاستمرار.
يقودنا هذا التفريق بين اللاجدوى من الواقع واللاجدوى من الأمل. ان اللاجدوى من الواقع هي سلاح الاديب، شاعراً وروائياً في الذهاب الى جدوى الامل، فيما تقود جدوى الواقع العالم الى جدوى الامل. لهذا فالعالم يعيش واقعه والاديب يعيش في احلامه.
وأضرب لذلك مثلاً: ان انيشتاين في نطريته النسبية كان هارباً من لا جدوى واقع الفيزياء الى جدوى امل الفيزياء حتى جاءت نظريته نوعاً من انواع الاحساس بالجدوى ناتجة من الاحساس بلاجدوى واقع الفيزياء. وان المتنبي حين قال- اريد ان ابلغ من الزمن ما لم يبلغه الزمن من نفسه- كان هارباً من لا جدوى الواقع الى جدوى الامل، كلاهما صاحب نظرية،توقفت الاولى عند الاول لانها احتكمت الى النتائج، ولم تتوقف الثانية لأن مفهومها امتدادي على محوري الافق والشاقول الحافرين في ضمير العقد عند المتنبي.
هل تعد اللاجدوى خيبة حقيقية؟
اننا امام حالتين فيها. فعندما تصبح مأساة فهي خيبة، وعندما تصبح وعداً في شيء آخر فهي لاجدوى . كذلك مثال على ذلك: ان الانسان يستطيع ان يدرك الله بالكون…. بعض هذا الانسان عد البحث عن ذلك اعجازاً آلهياً، وحول اللاجدوى الى ايمان بالمعجزة وآمن بالله على الرغم من صعوبة او استحالة ادراكه، فيما عد بعض آخر منه هذا البحث لا جدوى فاسقط الايمان بغائب عن الحس من حسابه وصار ملحداً.
لقد ظل الموت اكبر النهايات التي تسد الطريق على جدوى الحياة وتفتحه امام الاحساس باللاجدوى. وامامنا من المفارقات الاجتماعية ما يجعل اللجوء الى اللاجدوى أمراً معقولاً في شيء ما من الموضوعية. فاليأس من انتصار الفضيلة عند بعض الناس، وتفوق الخائبين على اصحاب المصداقية والموقف الحاسم، امران اجتماعيان جعلا للاجدوى امراً قائماً.
ولقد صار غياب العدالة المؤقت في ظلال الاقطاع والجوع داعياً الى احساس المظلومين بلاجدوى العيش. وكلما تأزم الانسان من احساسه باللاجدوى، تذكر الروح وقيمها واخلاق الدين وتعليماته نوعاً من انواع العلاج.
ان الآية الكريمة “.. وان ليس للانسان الا ما سعى”. الآية تحارب الاحساس باللاجدوى، لكن اللاجدوى سرعان ما تظهر كلما ظهر في الارض تطبيق بشري يعاكس هذه الآية.
ومن دواعي ظهور اللاجدوى، ان مقولة “لله حكمة لا تدركها العقول”، كثيراً ما ينساها الانسان المتعجل الملحاح ويستبطئ نتائجها.
لقد شاع عند كثير من الجاهلين بقدرة الله على ابداء المدد للانسان، ان قوله “الله كريم..” وقوله “لا حول ولا قوة الا بالله”.. اثنتان من اقوال الامل البعيد.. وهذا ما يجعل هؤلاء بعيدين من ادراك علاقة الله تعالى بالبشر المنكودين في احوالهم.
يجب ان نكون اكثر حذراً في التعامل مع اللاجدوى، وطوبى لمن استطاع ان يحول كل احساس باللاجدوى الى طريقة للبحث عن جدوى جديدة.
هناك علاقة واضحة بين الاحساس باللاجدوى والذكاء الانساني. ان الاغبياء هم آخر من يحس باللاجدوى، لذلك فهم في نعيم وترف. ان الانسان الذكي يكتشف لعبة الحياة وينفر من مفارقاتها فيحس باللاجدوى.
ان الاحساس باللاجدوى عذاب انساني شديد، وقد لا يتعذب في الحياة الا الذكي العارف بصبيانيتها وترهلها وبلادتها ونزفها. والاذكياء الخبثاء هم الناس العارفون بكيفية اغماض العين الى النصف عن الحقيقة التي اسمها الكذبة. اما الاذكياء الذين لا خبث في ذكائهم فهم ضحايا القطيع البشري.
مرة اخرى، طوبى للاذكياء في التغابي عن صعوبة ما لا يدرك من الحقيقة المرة.
ان المثقف الحقيقي مدعو الى ان ينتبه على خطورة احساسه بلاجدوى ثقافته، لانه يجب ان يستمر لكي تستمر الحياة، واول المطالب التي نواجه بها المثقف هو سؤالنا اياه: ماذا تريد من ثقافتك؟ ان اول درجات السقوط الثقافي عند المثقف هو ان يريد شيئاً، فالثقافة مثل الحب، تعطي ولا تأخذ، والمثقف مثل المناضل، اول من يعطي وآخر من يأخذ، اما حينما يكون للثقافة هدف شخصي او طموح ذاتي يقع في لذة ويستقرئ في الوجوه الرضا. فالثقافة ميتة لا محالة، يكفي المثقف شرفاً وفخراً ان له اتباعاً لا يعرفهم وجنوداً لا يراهم وانصاراً لا يلتقي بهم. ويكفي المثقف المبدع فخراً ان من يمشون في جنازته هم اضعاف من لم يكتبوا له واليه رسالة اعجاب في يوم ما.
[email protected]