في الحديث عن أبي الفضل العباس عليه السلام والذي يكون على الأكثر في أيام شهر محرم الحرام ولا سيما في اليوم السابع منه، يتم التركيز في الغالب على علاقته الاخوية مع الإمام الحسين عليه السلام وعلى شجاعته النادرة وتضحيته وعلى سقايته وعلى لقبه قمر العشيرة أو قمر بني هاشم وما شابه ذلك، وهذا الأمور مهمة بلا شك ولكنها ليست العباس كله!!
فلا زال من العباس عليه السلام الكثير من الجوانب التي تتطلب الاهتمام.
بل حتى هذه الامور نفسها بحاجة إلى النظر لها من جهات مختلفة فمن الظلم أن نقصر النظر فيها على ما أُشتهر فقط.
في مجلس في مدينة الشطرة قبل سنين مضت في محاولتي اليتيمة لولوج عالم الخطابة الحسينية ولكن بأسلوب مختلف، تحدثت عن صفة قمر العشيرة أو قمر بني هاشم والتي تلازم العباس عليه السلام والتي يروي المؤرخون نقلاً عن الاصفهاني في مقاتل الطالبيين إن سبب إطلاق هذه الصفة عليه وسامته وجسامته، وقلت وإن لم اجد فيما ورد عن أهل البيت عليهم السلام من نصوص لذكر هذا اللقب ولكنه يبدو إنه كان مشتهراً به سلام الله عليه واستبعدت حينها أن يكون السبب الوسامة رغم إني لا أنفيها لأن هذه الصفة إن كان الناس هم من أطلقها عليه فالناس يهتمون للوسامة والجمال أما إذا كان أهل البيت عليه السلام هم من أطلقها عليه فهم سلام عليهم لا يركزون على هذه الامور، وإن اهتموا بها في حالات فإنهم يجعلونها باباً أو اشارة لأمر أهم.
ورجحت في حينها إنه لعل المراد منها الاشارة إلى كونه قمراً يُستهدى به ويستمد نوره من شموس أهل البيت الائمة المعصومين عليهم السلام فهم المصدر وهو المقتبس من ذلك المصدر.
واليوم بودي أن اقدم فهماً آخر ليس من باب التحذلق أو التفلسف الزائد وإنما محاولة للاستفادة القصوى من نهضة عاشوراء وما فيها من دروس وعبر، وهذا الفهم لا ينفي ما سبق ولا يتعارض معه وأذكر هنا نماذج مما ورد على لسان المعصومين عليهم السلام في حق العباس عليه السلام لأنطلق منها:
حيث ورد عن الإمام السجاد عليه السلام إنه قال : رحم الله العباس ، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة.
وجاء في زيارة العباس عليه السلام والواردة عن الإمام الصادق عليه السلام : اشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصي المبلغ، والمظلوم المهتضم. فجزاك الله عن رسوله وعن أمير المؤمنين وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء، بما صبرت واحتسبت واعنت ، فنعم عقبى الدار.
وجاء فيها أيضاً : اشهد إنك لم تهن ولم تنكل، وانك مضيت على بصيرة من امرك، مقتدياً بالصالحين، ومتبعاً للنبيين، جمع الله بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المحسنين، فإنه ارحم الراحمين.
وهذه مقاطع من الزيارة فقط.
من هذه النصوص تتضح لنا المكانة العظيمة للعباس عليه السلام والجوانب المهمة في حياته وسلوكه والتي كانت سبباً في استحقاقه لهذه المكانة.
فهو قد آثر وأبلى، وشُهد له من قبل الأئمة عليهم السلام بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل، وإنه لم يهن ولم ينكل، وإنه مضى على بصيرة من أمره مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين.
هذه الأعمال وهذه الصفات هي التي أعطت للعباس عليه السلام هذه المكانة وهي التي صيرته قمر بني هاشم، وهي بعينها الصفات التي نهض الإمام الحسين عليه السلام لأجل إيجادها في الأمة الإسلامية والحث عليها “إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي”.
فالعباس عليه السلام النموذج الامثل للتفاعل الايجابي مع النهضة الحسينية، التفاعل الذي يُوصل صاحبه إلى اسمى حالات التضحية والفداء والشجاعة، التفاعل الذي يذوب معه وجود الشخص في قيادته المعصومة حتى لا يكاد يرى لنفسه وجوداً، التفاعل الذي يغير شكل العلاقة مع القيادة الحقة من علاقة الاتباع والقائد إلى علاقة العاشق والمعشوق.
فالعباس عليه السلام ذاب في عشق الحسين عليه السلام كإمام وقائد حتى لم يكد يرى لنفسه أي وجود واعتبار فكان أن كافأته السماء بأجنحة يطير بها في عالم العشق.
فهو بحق قمر العشق الحسيني الذي يبقى منيراً بأسمى آيات الاخلاص والتضحية والفداء مرشداً للأجيال وملهماً للسائرين على طريق الاصلاح والهداية.
فسلام عليه يوم ولد قمراً، وسلام عليه يوم عاش قمراً، وسلام عليه يوم استشهد قمراً، وسلام عليه يوم يبعث قمراً يطير بجناحين.