23 ديسمبر، 2024 5:23 ص

العباس بطلا العباس حكيما العباس بعيدا عن خيال الروزخونيه

العباس بطلا العباس حكيما العباس بعيدا عن خيال الروزخونيه

مذ كنت صغيرا كان لي عالمي الخاص الذي كان يتركب كل حقبة تركيبا جديدا بابعاد جديدة ، مواكبا مراحل نموي العقلي ومداركي الذهنية وكان بيتنا على ضفاف دجلة في تلك الناحية الجنوبية الغارقة في سبات الاساطير وقصص الخيال المحببة ،ناحية الكحلاء التابعة للواء العماره ،وكان مضافة رجال الدين والروزخونجية الذين كانوا يقصدون الناحية لقراءة السيرة الحسينية ابان العشرة الاولى من محرم ،وشهر رمضان تاما ، فهو بيت عالم المدينة الذي يوفر لهم المأوى والطعام والخدمة ،وكنت احرص على حضور محاضراتهم في حسينية الوالد ، كل مساء بعد العشاء ،بعضهم كان يبهرني وبعضهم كان يخرجني من عالمي الذي نسجته حولي وحول معتقداتي وصوري الطفولية التي وضعت بعضها موضع التقديس وقد نشأت في بيت ديني ربه اية الله السيد طه الياسري ،كنت اكن للعباس مشاعرا عارمة بالمحبة والاعجاب والهيبة والتقديس بلا مبالغة ،فقد كانت مشاعر الطفولة والصبا تضعه في اطار البطل الذي لا يقهر وكان ما يسرده عنه قراء المنبر الحسيني يزيد في تضخيم صورته البطولية ، لم اكن اعرف انه كان فقيها تتلمذ على يد ابيه العبقري الامام علي بن ابيطالب (ع) وانه كان حكيما لبيبا كريما فدائيا ككل هاشمي تربى في كنف عائلة النبي محمد (ص) ،وكانت كل الصور الاخرى غير صورة البطل الاسطوري الذي تحف به الملائكة وتحميه يلقي بها عقلي في سلة المهملات ولم اتساءل يوما مثلا – اذا كانت الملائكة تحف به فلماذا سمحوا بقطع كفه ؟؟ تلك الكف التي كانت تصنع من النحاس او الحديد او اي معدن طيع ،يدور بها الشحاذون في قرى الجنوب مستنزلين الصدقات بما يثيره كف العباس المقطوع من اسى ومشاعر تعاطف بل وتقديس ايضا ، ومع الانتقال من مرحلة الطفولة الى الصبا فالمراهقة فالشباب ،بدأت الاسئلة ترج عالمي وتقلبه راسا على عقب ،كان سؤالي الطفولي الاول الذي لج بطرق راسي ،كيف يمكن ان يكون العباس من الاشراف كما عرفت من الكتب التي اقرأ وليس اماما ،وهو حامي الحمى ونصير الدين ؟؟ثم بدأت اذهب بعيدا في رسم ذلك الشبح المقدس انسانا دون ان انتقص من سماته البطولية واخلاقه الراقية وتضحيته ووفائه لاخيه الامام الحسين ،وحين كبرت صرت اعيد رسم ملامح صورة العباس بعيدا عما زرعه في ذهني الروزخونية وخيالاتي بابعادها المضخمة ،لاجالس هذا المقدس بعيدا عن اطر القدسية التي كانت طفولتي ترغمني ان ارسمها له له هالات منيرة مشعة مشرقة لا ادري من اين كنت أأتي بها ،حتى جائني اليوم الذي صرت فيه افخر باستشهاده كما يستحق واقدمه لنفسي انسانا سمى بروحه اعلى عليين وما اعظم انسانية العباس وبطولته وحكمته وعلو اخلاقه .
الباحث الشيخ على الفرج انار لي صفحات كثار مما كنت لا اعرفه عن شخصية العباس في كتابه العباس بن علي ( ع) بين الاسطورة والواقع ،وكانه في هذا كان يخاطبني شخصيا ويقدم لي شخصية العباس في ابعادها الحقيقية بعيدا عن الاسطورة والتصنع وفذلكة الالوان ،وطويلة ووعرة هي المسافة التي قطعها الشيخ علي وهو يجمع سيرة العباس بن علي (ع)، متنقلا بين متون الكتب، ومحطات التاريخ، ليكتشف من خلالها كم قصيرة هي السيرة الموثقة لهذا البطل الأسطوري في بطون الكتب!، أكثر من ٣-;-٠-;-٠-;- صفحة ، وسبعين مصدرا مرجعا، من أجل الإيفاء بنذره الخاص بكتابة سيرة العباس، والتي ستنتهي إلى ما يشبه نفي السيرة الرائجة عن هذه الشخصية المحورية في حادثة كربلاء!.
ومطلع السيرة كما يقترحها الفرج يبدأ من أم البنين، وإسمها الذي تتباين حوله المرويات، فيما الفرج يرجح تسمية “أم البنين” مستبعدا إسم “فاطمة” وبالتالي نافيا ما يتردد من طلبها للإمام علي بعدم مناداتها بفاطمة احتراما لمشاعر أبناء الزهراء، بعدها ينتقل إلى المرويات المتعلقة بقصة الزواج من أم البنين، بما فيها طلب الإمام علي من أخيه عقيل والرؤية المنامية لأم البنين والتي يرى انتسابها إما لمصادر حديثة، أو رجعوها إلى مجاهيل من الرواة.
ستتكرر ملاحظات الفرج حول حداثة المصادر المعتمدة في رواية الكثير من المرويات الخاصة بأم البنين والعباس، ومثلها الإشارة إلى التداخل بين سيرة وسيرة أخرى بنحو الإزاحة، فأم البنين في قصة زواجها تشبه قصة زوجة النبي صفية بنت حيي بن أخطب، وكذلك في الأبيات المنسوبة لها في ولادة العباس، والتي يقارنها بأبيات شبيهة رويت في ولادة النبي محمد، ومثله الخلط بين العباس بن علي والعباس بن ربيعة في إيراد وقائع حرب صفين، والإبدال في قصة الامتناع عن شرب الماء حيث الوارد هو نافع بن هلال وليس العباس بن علي كما يذهب الفرج في تحقيقه.
الكثير من المرويات التي ذهبت لبناء صورة استثنائية للحظات العباس الأولى ، ودفعت باتجاه رسم دور كربلائي مبكر، لا تصمد كثيرا عند مشرط النقد والتحقيق، هكذا يستنتج الفرج، فهو يضعها في خانة الحديث من المرويات، والضعيف من المصادر والتي تنسب في الغالب لفضلاء وعلماء وخطباء دفعتهم العاطفة لعدم التحقق بل والمضي للتوسع في الخيال على حساب الواقع.
الألقاب التي لحقت بالعباس كثيرة، غير أن بعضها لا يجد له سندا تاريخيا حقيقيا، وفي مقدمتها لقب “الكفيل” أي كفيل زينب، والتي يرى الباحث بأنها بنيت على روايتين لا يعدو عمرها أكثر من” مئة أو مئة وخمسين سنة”، وهو اللقب الذي سيجري استثماره وتكثيفه ضمن الخطاب العاشورائي.

ينوع الفرج في طريقة مقاربته للنصوص التي يتعقبها بكثير من الصبر، فهو يستخدم أدوات الجرح والتعديل التقليدية في مقاربة سند النص، ويحاول تقويم المتن عبر مختبر البلاغة تارة، وعوالم النفس وبناء الشخصيات وما تحتمله الشخصيات بأبعادها الواقعية تارة أخرى،فهو يناقش أسلوب الرواية وطريقة بنائها، دون أن يغفل عالم الكاتب وسيرته، وما ناله من مدح أو ذم، ودون أن يغفل استقامة المروي مع العقل.
كتاب المنتخب الطريحي وكتاب بحار الأنوار هما بمثابة المحطات التي تسللت من خلالها الكثير من المرويات الضعيفة، وهذا ما يجعل الفرج يميل إلى أن الكثير من السيرة المتداولة منشأه القرن العاشر والحادي عشر، حيث تمددت طبقة الخطباء الدينين وانتشارهم، وتصاعدت حدة الانفعال العاطفي في التعبير عن هذه المناسبة.
بطولة العباس هي أكثر العناوين صمودا في هذه السيرة التي يعرض لها الفرج، فكربلاء كما يقترح بدأت شرارتها بموقف شمر المحرض على قتال الحسين، وموقف العباس السامي والمحرض لمعسكر الحسين على الثبات، هناك بدأت صورة العباس المحورية في المواجهة، والتي ظهرت في أكثر من موقف، وهو صاحب الراية الكبرى في يوم المعركة.
لا يخلو الكتاب من الاستكشافات لمن هو مهتم بسيرة كربلاء، ومن الجرأة في مقاربة موضوعة تبدو اليوم عنوانا للسجال بين الدعاة لغربلة السيرة، والمدافعين عن صورتها القائمة، الأمر الذي يجعل من مهمة كل باحث محفوفة بالمخاطر، وبالاشتباك مع رغبة الناس في صيانة تصوراتهم وحراستها ضمن عنوان الدفاع عن قضية مقدسة